أدى التسرع في تنفيذ «تحول الطاقة» من قبل الدول المتقدمة لتحقيق «تصفير الانبعاثات» بحلول منتصف القرن، بحسب «اتفاقية باريس لمكافحة التغير المناخي» في عام 2015، إلى اختلال في توازن الاستثمارات العالمية فيما بين الطاقة الهيدروكربونية من جهة والطاقات المستدامة من جهة أخرى، الأمر الذي أدى بدوره إلى اختلال في إمدادات الطاقة وبروز ردود فعل محذرة من الأخطار الناجمة عن الاستمرار في هذه المسيرة في حال استمرارها دون إعادة النظر فيها.
برزت ثلاثة أمثلة خلال الأسبوعين الماضيين تدل على الاهتمام المتزايد باسترجاع أولوية الاستثمار في القطاع النفطي، لمحاولة نشوء «سلة طاقة متنوعة المصادر» تستطيع الاستفادة القصوى من مصادر الطاقة المتوفرة عالمياً، وتزويد المستهلكين الطاقة بصورة مستمرة دون انقطاعات وبأسعار تنافسية.
فقد أعلنت شركة «بريتش بتروليوم» (بي بي) أنها ستعود إلى عملها الأساسي الذي تأسست الشركة من أجله، وإعطاء الأولوية لصناعة النفط والغاز، وقالت إنها ستستمر في إلقاء النظر على الطاقات المستدامة في الوقت نفسه، لكن بخفض الاستثمارات في هذا القطاع الطاقوي الجديد. وذكرت أن «التفاؤل في مسيرة تحول طاقة سريعة لم يكن في محله، وقد ذهبنا بعيداً كثيراً في هذه المسيرة، وبسرعة».
أضافت «بي بي»: «لقد تبنينا مسيرة الطاقات المستدامة بجدية وحزم، وحوّلنا استثمارات من النفط والغاز إلى الطاقات المستدامة. لكن، نظراً لضخامة التكاليف، والتغير في سياسة الدعم الحكومية الذي تعتمد عليه صناعة الطاقات المستدامة (بالذات تغير السياسة الأميركية في عهد الرئيس ترمب، حيث شركة بي بي مستثمرة ضخمة في القطاع النفطي الأميركي)، وزيادة تكاليف الطاقة للمستهلكين، لذا فإن قناعتنا بضرورة العودة إلى الأساسيات (الطاقة الهيدروكربونية)».
و«بي بي» ليست الأولى أو الوحيدة التي تتبنى سياسة إعادة النظر في سياستها لتشييد الطاقات المستدامة. فقد سبقتها شركتا «شل» الأوروبية و«إكوينور» النرويجية. تشابهت الأسباب لإعادة النظر نحو الطاقات المستدامة لدى الشركتين مع تلك لدى «بريتش بتروليوم»، وهي: الصعوبات التي واجهتها أسواق الطاقات المستدامة (عدم التمكن من الاستفادة القصوى لطاقتي الشمس والرياح)، والتكاليف المرتفعة لتشييد هذه الصناعة الحديثة (بسبب التضخم العالي في الدول المتقدمة) ومن ثم ارتفاع أسعار الكهرباء والتدفئة.
من الجدير بالذكر، أن الشركات النفطية الأوروبية تعمل تحت أوضاع أصعب بكثير من الشركات النفطية العالمية الأخرى، نظراً إلى الدور الريادي لأقطار السوق الأوروبية المشتركة وتشريعاتها التي حاولت تنفيذ مسيرة «تحول الطاقة» بأسرع وقت ممكن، مما يعني فرض شروط بيئية أشد قساوة على الشركات الأوروبية. وقد برز هذا الأمر خلال الأشهر الماضية في أوروبا أثناء مظاهرات المزارعين الأوروبيين وشكواهم عن تحمل أعباء مالية أكثر بكثير على منتجاتهم الزراعية الأعلى سعراً من تلك المستوردة من دول أميركا اللاتينية، مثلاً، التي لا تنفذ بنود اتفاقية باريس 2015، كما تقوم بذلك الأقطار الأوروبية.
أما في حال الولايات المتحدة، حيث أضخم استثمارات نفطية لشركة «بي بي»، مثلاً، فقد استفادت الشركة البريطانية من الدعم الذي حصلته أثناء عهد الرئيس جو بايدن، المتعاطف، هو وحزبه الديمقراطي، مع حركة مكافحة تغير المناخ. لكن هذا الوضع تغيّر كلياً في عهد ترمب، إذ أصبحت الطاقات المستدامة عبئاً على الشركات، نظراً إلى تقليص أو إيقاف الدعم الحكومي عنها، الأمر الذي يزيد من تكاليف نفقاتها، ومن ثم زيادة الأعباء السعرية للمستهلك الأميركي.
تعتزم «بي بي» خفض استثماراتها في الطاقات المستدامة وزيادتها في الصناعة النفطية. إذ تعمل على زيادة استثماراتها السنوية في النفط والغاز حوالي 20 في المائة، أو زيادة الإنتاج السنوي لما يتراوح بين 2.3 مليون برميل يومياً و2.5 مليون برميل يوميا، بحلول عام2027. هذا سيعني، بدوره، زيادة قيمة الاستثمارات النفطية ما بين 1.5 مليار دولار وملياري دولار سنوياً، وذلك في ضوء شعار ترمب «احفر، عزيزي، احفر». وفي نفس الوقت، تعمل «بي بي» على خفض الاستثمارات في الطاقات المستدامة سنويا على الصعيد العالمي ما بين 1.5 مليار دولار وملياري دولار. وكانت «بي بي» تعهدت عام 2020 خفض استثماراتها النفطية حوالي 40 في المائة، وزيادة استثمارات الطاقات المستدامة في الوقت نفسه بنسبة 25 في المائة بحلول عام2023. أما الآن فقد قررت إعادة النظر في هذه السياسة، وقرارها الجديد هو إعطاء الأفضلية الاستثمارية للطاقة الهيدروكربونية بدلاً من الطاقات المستدامة.
من جانبه، ذكر الرئيس التنفيذي لشركة «أرامكو السعودية» أمين الناصر في مؤتمر «سيرا ويك» في هيوستن، أنه «من الضروري إعادة التفكير في خطط التحول بمجال الطاقة والتوقف عن التركيز على عناصر التحول التي أخفقت»، مشدداً على «الحاجة إلى الاستثمار في الوقود الأحفوري لتلبية الطلب العالمي».
أضاف الناصر: «لقد حان الوقت للتوقف عن تعزيز الفشل»، مشيرا إلى وقود «الهيدروجين الأخضر، كمثال على الوقود الذي كان محور سياسات تحول الطاقة. ولكنه لا يزال مكلفاً للغاية بحيث لا يمكن استخدامه تجاريا على نطاق واسع».
وقال الناصر إن «أرامكو» استثمرت أكثر من 50 مليار دولار في عام 2024 في مشاريع الطاقة التقليدية والمتجددة، مضيفاً أنها تستهدف الاستثمار فيما يصل إلى 12 غيغاواط من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بحلول عام 2030.
تدل سياسة السعودية الاستثمارية هذه، إلى «سلة طاقة متعددة المصادر» يلعب فيها النفط دوراً مهماً، إلى جانب استهلاك المصادر الأخرى.
من جانبها، تشارك الشركات الصناعية الهندية الخاصة كبرى شركات السيارات الكهربائية العالمية لإنتاج السيارات الحديثة هذه لتلبية الطلب الداخلي والتصدير. كما تعمل الهند، وهي واحدة من كبرى الدول المستهلكة للنفط، على كبح التلوث المناخي في مدنها المكتظة بالسكان. لكن، رغم هذه الإجراءات، تحاول الهند جاهدة زيادة إنتاجها النفطي المحدود الكمية حالياً. وفي الوقت نفسه، تسعى الهند إلى زيادة طاقتها الإنتاجية النفطية، إذا أمكن. فقد تبنى البرلمان الهندي مؤخراً قانوناً يهدف إلى تبسيط وتشجيع الاستكشاف النفطي لزيادة الاستثمارات في هذا القطاع. تشمل بنود القانون الجديد توحيد الرخص في جميع عمليات الاستكشاف النفطي. من ثم، فالحاجة الآن هي لرخصة واحدة للاستكشاف، بدلاً من رخصة لكل مرحلة من مراحل الاستكشاف، وما يشكله هذا من عراقيل بيروقراطية وتأخير في العمل، هذا بالإضافة إلى «تسهيلات أخرى» لتشجيع الاستثمار في صناعة الاستكشاف البترولي الهندي.
يشكل القانون الهندي النفطي الجديد، مثالاً آخر لدولة اقتصادية كبرى تعمل للحصول على سلة طاقات متنوعة، دون منع طاقة محددة، كما هو التصور السابق.
من ثم، فإن الطريق الذي سيسلكه العالم مستقبلاً، وبناءً على تجربة السنوات الماضية، سيعتمد على «سلة مشتركة المصادر» تتنافس فيها الأسواق على المصادر الطاقوية المستقرة الإمدادات والأسعار المعتدلة، بدلاً من الاعتماد على مصدر طاقوي واحد أو اثنين بأسعار باهظة.