أميركا بين شقوق الداخل والانتصار على الحلفاء في الخارج

أميركا بين شقوق الداخل والانتصار على الحلفاء في الخارج

أميركا بين شقوق الداخل والانتصار على الحلفاء في الخارج

 العرب اليوم -

أميركا بين شقوق الداخل والانتصار على الحلفاء في الخارج

بقلم - سام منسى

وصلت إلى واشنطن بعد انقطاع دام أكثر من سنتين تقريباً بسبب آثار جائحة كورونا على السفر، إضافة إلى ما مر ويمر به لبنان من مشاكل وأزمات منذ عام 2019. ولأول مرة منذ أكثر من 20 سنة على انتمائي إلى هذا البلد برغبة وتصميم، يسكنني انطباع قد يخالفني فيه البعض، بأن أشياء كثيرة تغيرت فيه.
أول ما يلفتك هو تراجع الخدمات أو الفاعلية في تلبيتها بسرعة ودقة وهي خاصية لطالما ميزت أميركا، إلى ارتفاع ملحوظ بالأسعار جلعت كلفة المعيشة باهظة بعدما عرفت على مدى عقود باعتدالها مقارنة بالدول الأوروبية. وتبدأ مؤشرات هذا التراجع من المطار مع خدمة تأجير السيارات مثلاً، لتجد موظفاً واحداً يهتم بجميع المسافرين وما طلبته غير متوفر وتنتظر ساعة ونيف ليجهزوا لك بديلاً. وتصل إلى الفندق حيث لا خدمة غرف ولا مطاعم بمفهوم المطعم، بل مقصفا تنتظر فيه بالدور لتحصل على طعام بأطباق بلاستيكية! وينسحب ذلك على الخدمات في المصارف ومؤسسات الدولة، وجميعها تشترك في ظاهرة فراغ أمكنة العمل من القوى العاملة التي باتت بمعظمها تعمل من المنزل وتعالج الأمور كافة إما عبر الكومبيوتر أو الهاتف، أي عن بعد، أو انكفأت عن العمل بسبب حصولها على المساعدات التي رصدت لتعويض الناس عن تعطيل أعمالهم أو توقفها أو حتى تراجع مداخيلهم. هذا الأمر حفز الكثيرين على تفضيل الاكتفاء بالمساعدات وعدم العودة إلى ممارسة الأعمال، وسيكون المضي به دون دراسة واستشراف لتداعيات آثاره المستقبلية السلبية على المجتمع كما على الاقتصاد.
سياسياً، فوجئت بعد غياب بحدة الانقسام الحاصل في الولايات المتحدة وبطبيعته المتشددة المستجدة التي بدأت مع الانتخابات الرئاسية الأخيرة وما رافقها من رفض لنتائجها وتشكيك بنزاهتها. هذا الانقسام بات يطال القواعد الرئيسية التي قام عليها نظام القيم الأميركي الذي أرسته أميركا نفسها عبر النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. الأميركيون هذه الأيام منقسمون إزاء نظام القيم هذا، وبات قسم لا يستهان به منهم لا يؤمنون بالمبادئ التي يقوم عليها، ما ترجم خلافاً حول مفاهيم عدة كالحرية والعدالة والمساواة في الداخل، ونشر هذه المبادئ وحمايتها في الخارج عبر السياسة الخارجية إن كان في شقها الدبلوماسي أو في شقها العسكري. وكما أصبحت القضايا الداخلية محط تشكيك وخلاف، أصبحت القضايا الخارجية والدور الأميركي في العالم أيضاً محط خلافات في الداخل.
الأمر الآخر الذي فوجئت به هو غلبة الهويات الفرعية على الهوية الوطنية تحت مظلة تخوف البيض من «اسمرار أميركا»، وتخوف السود كما اللاتينيين والآسيويين من انتفاخ مؤيدي «تفوق البيض»، ناهيك برهاب المسيحيين من المسلمين وشعور هؤلاء بأنهم عرضة للتمييز. أما الشعبوية التي انتعشت في أكثر من دولة في العالم الغربي، فلم تسلم منها أميركا باعتبارها محصنة كما اعتقدنا. وعلى الرغم من أنها بلد المهاجرين إنما تميزت بأنها صهرت القادمين بتحلقهم حول العلم الأميركي، وفي الوقت نفسه تركت لهم الحرية كاملة لشؤون عيشهم وممارسة عاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم. إنما اليوم بتنا تشعر بأن هناك هويات فرعية تحاول القفز فوق الهوية الأميركية الجامعة.
لعل تنامي دور اليسار الأميركي مع التغيّر الحاد الذي طرأ عليه عقائدياً، أسهم في هذا الانقسام. فمع تخطيه أدبيات الحقوق المدنية والحريات ومبدأ «عمى الألوان» واستبداله سياسة إعادة التوزيع بـ«سياسة الاعتراف» وتبنيه لمفاهيم جديدة كالتملك الثقافي، خلق سياسة الهوية الحديثة. وأدى التحول في منطقه إلى نقل سياسة الهوية هذه بعيداً عن الاحتواء - الذي كان دوماً شعار اليسار - نحو الإقصاء، وكما جعل الأميركيين السود واللاتينيين والآسيويين ينكفئون إلى هوياتهم الفرعية جعل البيض يستفيقون على تفوقهم العرقي. هذه التوجهات الفكرية الجديدة لليسار الأميركي خلقت من جهة إرباكاً لدى الحزب الديمقراطي، وأوصلت من جهة أخرى إلى ردود أفعال عنيفة لدى اليمين المعتدل والمتشدد على حد سواء، ما أجج التجاذب الحاد الذي تعيشه أميركا هذه الآونة.
هذه التغييرات، الظرفية منها الناتجة عن جائحة كورونا والأكثر استدامة الناتجة عن تحولات فكرية واجتماعية عميقة، تساعد أكثر في فهم سياسة أميركا الخارجية، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، التي بات عنوانها الرئيسي منذ ولاية باراك أوباما هو سقوط سياسة الردع، ما شرع الأبواب أمام الكثيرين للتبشير وبتسرع وخفة ببداية نهاية العصر الأميركي وحتى تفكك أميركا وسقوطها.
سقوط سياسة الردع ترافق مع سياسة القيادة من الخلف ثم سياسة الانسحاب لتأتي بعدها سياسة التخلي، حتى قيل إن الولايات المتحدة لا تنتصر إلا على حلفائها. لن نعدد أخطاء أميركا الكبرى في الإقليم بل خطاياها، إن في تعاطيها مع الأصدقاء والأعداء، لكن يكفي ذكر إغلاق عينيها عما جرى في سوريا ويجري في اليمن ولبنان، وانسحابها من أفغانستان وتقديم البلاد على طبق من ذهب إلى «طالبان»، كما قدمت العراق سابقاً إلى إيران، وطريقة إدارتها لمفاوضات الملف النووي الإيراني الذي أقل ما يقال فيها إنها قصيرة النظر تعيد ارتكاب الأخطاء «الأوبامية» نفسها مع اختلاف بسيط؛ أن أوباما لم يشارك حلفاءه في المنطقة بمآلات المفاوضات الأولى، أما إدارة جو بايدن فهي تشركهم إنما عبر الضغط عليهم للقبول بالعودة إلى الاتفاق من دون معالجة جدية لهواجسهم.
المقلق المهم أميركياً هو ما ينتظر العالم في ملف روسيا - بوتين، وبخاصة إذا أقدم على مغامرة عسكرية في أوكرانيا مستغلاً ما يخاله ارتباكاً أميركياً، مغامرة قد نعرف كيف تبدأ، ولكن لا نعرف كيف تنتهي ونوعية الاضطرابات المزلزلة التي ستثيرها في أكثر من مكان في العالم وتأزيم العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية. فإذا أقدم بوتين على هذه المغامرة واقتصر الرد الأميركي كما هو متوقع من هذه الإدارة على العقوبات الاقتصادية، فإن ذلك قد يشجع الصين على عمل عسكري ضد تايوان. العقوبات الاقتصادية تفيد عندما يكون هناك نظام حكم يأخذ بالاعتبار الرأي العام وتكون مصالح شعبه أول اهتماماته، لكنها لا تفيد مع أنظمة مستبدة آخر همومها رفاه شعوبها. فكما أن العقوبات على إيران لم تغير أداءها، لن تغير العقوبات على موسكو أداء وممارسات نظامها. المستجد الوحيد الذي سيظهر هو التأكد أن استقالة الشرطي الأميركي باتت حقيقة.
إلقاء اللوم على أميركا وحدها في مشاكل وأزمات العالم يحمل شيئاً من الظلم والتجني، لأن الضفة الأوروبية من الأطلسي تتحمل بدورها كثيراً من المسؤولية بسبب ضعف دولها وتخاذلهم وتحولهم عبئاً على أميركا، يضاف إلى ذلك خواء حلف الناتو وضمور دوره، إنما ليس بسبب أميركا بقدر ما هو بسبب الجبن والدلع لدى الأوروبيين وفقدانهم أي رؤية سياسية أو اقتصادية.
أكثر ما نخشاه هو تحول القوى العظمى الأميركية إلى صليب أحمر أو منظمة غوث، تقتصر مساهماتها في العالم على مد المحتاج بالمساعدات، وفي رمزية تدل على ذلك، فإن الرئيس جو بايدن استبدل صورة للرئيس فرنكلين روزفلت في البيت الأبيض بصورة للرئيس جورج واشنطن، في دلالة على تغليبه نظرة روزفلت في أهمية البعد الاجتماعي بإدارة الشؤون الداخلية وأولوياته على أدوار الولايات المتحدة الأخرى كدولة عظمى. علّنا نتعظ!

arabstoday

GMT 03:41 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

ثلثا ميركل... ثلث ثاتشر

GMT 03:35 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

مجلس التعاون ودوره الاصلي

GMT 03:32 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

عندما لمسنا الشمس

GMT 03:18 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

رسالة إلى دولة الرئيس بري

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أميركا بين شقوق الداخل والانتصار على الحلفاء في الخارج أميركا بين شقوق الداخل والانتصار على الحلفاء في الخارج



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا
 العرب اليوم - تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية
 العرب اليوم - وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 21:12 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل
 العرب اليوم - بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 العرب اليوم - كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 02:40 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

القهوة والشاي الأسود تمنع امتصاص الحديد في الجسم

GMT 06:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فلسطين و«شبّيح السيما»

GMT 07:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 06:45 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان يقترب من وقف النار

GMT 10:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 16:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 02:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

11 شهيدًا في غارات للاحتلال الإسرائيلي على محافظة غزة

GMT 06:56 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فرصة إيرانية ــ عربية لنظام إقليمي جديد

GMT 19:23 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ميادة الحناوي تحيي حفلتين في مملكة البحرين لأول مرة

GMT 03:09 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

عدوان جوي إسرائيلي يستهدف الحدود السورية اللبنانية

GMT 07:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان

GMT 07:53 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

ألمانيا تحاكم 4 أشخاص بزعم الانتماء لـ "حماس"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab