بقلم - سام منسى
مهما بلغت مواقفنا وخلافاتنا مع واشنطن وموقفنا الناقد لنهجها، تبقى هذه المدينة المحطة الأهم والأغزر لمعرفة ما يجري في العالم، لا سيما في هذه المرحلة التي تمر بها منطقتنا، كما العالم بأسره، حيث تتشكل قوى ناشئة قد تشي بتأكيد سقوط الأحادية القطبية، بحيث يكثر التداول بمقولة إن الولايات المتحدة لم تعد القوة الوحيدة التي تدير منفردة شؤون العالم وهي تخلت طوعاً أو عنوة عن مهمتها كشرطي له، وهي بحال تراجع، جعلت الكثيرين يتخوفون فوضى شاملة، لا سيما مع غياب قوة بديلة.
فالصين غير قادرة على قيادة العالم. صحيح أنها تنين اقتصادي يمتلك القوة والثروة، لكنه تنين من دون أنياب واقتصاد يركن على التقليد، وتعتمد الخداع عبر مبادرة الحزام والطريق لتثبيت وجودها في سلسلة من الموانئ في منطقتي المحيط الهادي والشرق الأوسط لتعزيز وجودها العسكري فيها، وهي من جهة أخرى تفتقد الشرعية القائمة على منظومة قيم حداثية وأخلاق لصيقة بالطغيان، التي تؤهلها لقيادة العالم.
أما حليفتها روسيا، فهي أيضاً غير قادرة وغير مؤهلة للقيادة، فهي تلعب دور «الصبي المشاغب»، يتقن التكتيك أكثر من الاستراتيجية ويمارس التعطيل أكثر من إطلاق مبادرات لتسوية النزاعات.
والاثنتان مع حلفائهما، ككوريا الشمالية وإيران، أدخلوا العالم في مواجهة ضمن ما يسمى «المنطقة الرمادية»، وهي تلك الفجوة بين الحرب والسلم تسمح لهذه الدول بالقيام بأنشطة تخريبية، لكنها لا تعتبر من الناحية القانونية أعمالاً حربية، وتسمح لمن يرتكبها بالإفلات من العقاب كالحرب الإلكترونية وأعمال القرصنة وحملات التأثير والأخطر الأنشطة العدائية لوكلاء محليين. هذه الدول لا تستطيع قيادة العالم. ومع غياب القيادة الأميركية له، بات النظام العالمي الجديد يتجه ليكون نظام أقطاب مناطقية، أي نظاماً يتشكل ثنائيات أو ثلاثيات قطبية، حسب المناطق.
الهدف من محاولة استشراف المناخ العالمي هذه هو تلمس ملامح المستقبل في خضم المحادثات التي تجري في فيينا حول الملف النووي الإيراني، وعنوانها الرئيس، حسب أجواء واشنطن، هو صعوبة التوصل إلى اتفاق جديد، كما صعوبة العودة إلى اتفاق 2015، لا سيما مع اعتراف الأوروبيين والأميركيين معاً بأنه فقد معناه ومغزاه بسبب التقدم الذي أحرزته إيران على المستوى النووي.
الاستطلاعات الأميركية ترجح خسارة الديمقراطيين في الانتخابات النصفية المقبلة في الكونغرس، بجناحيه الشيوخ والنواب، خسارة معتبرة ما سوف يفاقم تعثر الرئيس جو بايدن، ويضع حملة الرئاسة على نار حامية. وهي تشير أيضاً إلى احتمال قوي بأن يعود الجمهوريون إلى البيت الأبيض.
هذان الأمران يدفعان طهران إلى عدم الرغبة في إجراء تسوية مع رئيس ضعيف، ولن يعود إلى كرسيه مجدداً، وبوجود كونغرس بأكثرية جمهورية سيشكل عائقاً أمام الالتزام بها، علاوة على احتمال تكرار تجربة دونالد ترمب مع فوز رئيس جمهوري.
وتعي طهران ضعف الرئيس بايدن وإدارته وسط تصاعد اتهامه بالتردد وعدم المبادرة، إن كان في الملف الإيراني، أو مشكلة أوكرانيا وتايوان، ويعتبرون أنه لا يملك سياسة استباقية، بل يدافع من متراسه من دون أن يهاجم، وينتظر أن يقوم الآخرون بعمل ما حتى يرد عليه.
إلى هذا، لا يمكن لواشنطن أن تقبل بمطالب إيران برفع شامل للعقوبات، ولكن في الوقت نفسه هذه الإدارة الحالية ليست بوارد الدخول في مواجهة عسكرية مع أحد، لا سيما مع إيران.
في المقلب الإيراني، الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي، المتشدد أصلاً، سيزداد تشدداً، لأن عينه على منصب المرشد الأعلى بعد وفاته، وهو يعمل على زيادة قوة «الحرس الثوري» الإيراني وميزانيته للسنة المالية الجديدة، التي رفعها إلى المجلس بنسبة 240 في المائة.
التشدد الأقصى هو تالياً السمة الرئيسة لعهد رئيسي، ولا مساحة فيه للتنازلات حتى للقبول بتسوية وسطية مؤقتة غير نهائية. هذا إضافة إلى أنه يبدو اعتماد إيران ثنائية رفع سقف المطالب إلى حدها الأقصى وكسب الوقت عبر تراجعها عن أمور اتفق عليها في جولات سابقة، أنها تفاوض من أجل التفاوض مع تعويلها على دعم وازن من الصين لا من أجل التوصل إلى تسوية شاملة.
السؤال الأهم يبقى حول النتائج المترتبة على عدم التوصل إلى اتفاق أو اتفاق وسطي بين الطرفين، مع ما تشهده المنطقة من نزاعات خافتة ومتفجرة دائمة ومتناسلة في سوريا والعراق واليمن والسودان وأفغانستان ولبنان وفلسطين، علاوة على ما تعانيه دولها الأخرى من مصاعب اجتماعية واقتصادية وبيئية متعددة وخطيرة.
إن خفوت حظوظ التسوية مع إيران وإصرار واشنطن على الانكفاء، إضافة إلى استمرار اللاعبين الآخرين كروسيا والصين وإيران نفسها في اعتماد «المنطقة الرمادية» كنهج للسياسة الخارجية والعلاقات الدولية، سيسعر هذه النزاعات. ولعل الفائدة الوحيدة أنها عززت قناعة العقلاء من القادة العرب أن المنطقة تركت لحل مشاكلها بنفسها. ومن هنا، تأتي الجهود السعودية - الإمارتية لرأب الصدع في المنظومة العربية وإنشاء تحالفات وتفاهمات في الإقليم منها التطبيع مع إسرائيل، من شأنها مواجهة التحديات الوجودية بدءاً بالدور الإيراني والمشاكل الاقتصادية والبيئية والمناخية.
ولا بد من الإشارة إلى أن العقلاء من قادة العرب يدركون أيضاً صعوبة الانتقال إلى علاقات حميمة ودافئة مع الروس، والانفتاح على الصين، بسبب عوائق عدة مرتبطة بالفكر والسياسة والاقتصاد وأنماط الحياة. فالقول إنه من السهل على المنطقة أن تتجه شرقاً، كما يطالب بعضهم، هو غير صحيح، ولن تتمكن في المستقبل القريب والمتوسط من الابتعاد عن الغرب والالتحاق بالشرق.
من هنا، تبرز أهمية وضرورة ترتيب وتحصين أوضاع البيت الداخلي لمواجهة الأخطار المحدقة. وهذا الأمر ينطبق على إسرائيل، كما على العرب، لا سيما أن إيران باتت على حدودها.
الولايات المتحدة تقف اليوم حاجزاً يمنع اندلاع مواجهة إيرانية إسرائيلية، لأنها تتجنب الانجرار إليها، إذ لن يقتصر أطرافها على الدولتين فقط، بل ستنجر إليها بوصفها الحليف الاستراتيجي لإسرائيل من جهة، وستجر دولاً أخرى وتنظيمات مسلحة باتت تدور في الفلك الإيراني.
وإيران نفسها لا تريد هذه الحرب المباشرة لسبب بسيط أنها تدير بنجاح نسبي حرب «المنطقة الرمادية» عبر وكلائها، وهذه أقل تكلفة عليها.
المحصلة أن السنة المقبلة سوف تحمل معها الكثير من المتغيرات، والكثير من التحديات، القريب منها والبعيد، بحيث بات من السذاجة اعتبار أن مشاكل العالم كلها سوف تنتهي بمجرد العودة إلى الاتفاق النووي، وكما ذكرنا في مقدمة المقالة، الخوف هو أن تعلق المنطقة برمتها في ستاتيكو خلال فترة الانتقال من النظام العالمي القديم إلى النظام العالمي الجديد، الذي لا يزال مجهول المعالم، إنما نستشعر أن من سيحدد أسس هذه المعالم يبقى من الغرب وليس من الشرق.