بقلم - سام منسى
يتصدر القرار الأممي 1701 العناوين الرئيسية للسجالات السياسية الداخلية في لبنان كما جولات الموفدين الأجانب إليه، وكأن تنفيذ هذا القرار هو وحده الحل للأزمة اللبنانية بتعقيداتها كافة أو أن تطبيقه بمثابة المدخل إلى حل بقية المآزق والمشكلات. صدر هذا القرار إثر حرب إسرائيل و«حزب الله» المدمرة سنة 2006، ويدعو تحت الفصل السابع إلى وقف تام للأعمال القتالية بين الطرفين، ويطالب حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة المؤقتة فيه بنشر قواتهما معاً في جميع أنحاء الجنوب، كما يطالب حكومة إسرائيل بسحب جميع قواتها إلى ما وراء الخط الأزرق، ويدعو إلى إيجاد منطقة بين هذا الخط ونهر الليطاني (جنوب الليطاني) تكون خالية من أي مسلّحين ومعدات حربية وأسلحة.
القرار المذكور لم يطبق عملياً من الجهتين المعنيتين، إذ لم توقف إسرائيل طلعاتها الجوية وخروقاتها الحدودية، ولم ينسحب «حزب الله» بكامل عدته وعديده، بل منذ 2006 وحتى اليوم، تحوّل الجنوب وغيره من المناطق اللبنانية إلى ترسانة سلاح يجاهر قادة الحزب بكميتها ونوعيتها لجهة نوعيتها التدميرية ودقتها. هذه الترسانة تؤكدها قدرة الحزب على خوض حروب خارجية وداخلية آخرها حرب إسناد «حماس» ومشاغلة إسرائيل المستمرة منذ 6 أشهر، في مؤشر لوجود مقاتليه وأسلحته بعد خط الليطاني، وكانت طرق إمداده مفتوحة من الداخل اللبناني إلى الجنوب كما عبر المنافذ الحدودية لا سيما غير الشرعية التي يسيطر عليها.
المساعي الدولية ومطالب الأطراف الداخلية متفقة على تفريغ الجنوب كلياً أو جزئياً من السلاح والمسلحين، وتعزيز وجود الجيش اللبناني بهدف تهدئة الجبهة، وعدم توسيع الحرب، والعمل بالتوازي على تفاهمات لتسوية الخلافات الحدودية وطبيعة وجود عناصر الحزب وبعض من سلاحه في الجنوب، في تسوية تقنية أكثر منها سياسية، أي مجرد انتقال السلاح والمسلحين من منطقة إلى أخرى، وتحديداً شمال نهر الليطاني، وبعضهم تحدث عن مرونة دولية في تنفيذ القرار 1701، ويشير إلى منطقة تمتد بضعة كيلومترات فقط من الخط الأزرق. وتكثر هنا تسريبات وتفاسير لمضمون المبادرات وتفاصيلها بين فرنسية وأميركية، وكلها لا تزال سراباً.
في الداخل تعلو الأصوات المناهضه لـ«حزب الله» مطالبة الدولة (وهنا مكمن الغرابة!) بتطبيق القرار 1701 فوراً، عبر نشر الجيش وحده في المناطق الجنوبية الحدودية. المطلب محق وضروري ولا بد منه، إنما تحقيقه يصطدم بعدد من المعوّقات والموانع الداخلية والإقليمية والإسرائيلية، ما يجعل هذه الدعوات أقرب إلى رفع العتب لا أكثر، والتنصل من المسؤولية. أصحاب هذه الدعوات أذكياء بدرجة كافية ولديهم الخبرة لإدراك أن الانسحاب من الجنوب وتطبيق الـ1701 لن يحدث دون تسوية سياسية إقليمية أولاً وداخلية ثانياً، ويدركون أيضاً أن هذا القرار لم يمنح قوات «اليونيفيل» أي صلاحيات قتالية، وبقي دورها يقتصر على مراقبة التحركات العسكرية ورفع التقارير حولها للأمم المتحدة، كما أن وجود الجيش اللبناني في الجنوب لن يخرج عن الإقامة في الثكنات العسكرية وأداء المهام الاعتيادية غير القتالية. ويعرفون أنه لو حدث انسحاب الحزب إلى شمال الليطاني بقدرة قادر، فلن يعني ذلك موافقة الحزب على هدنة مع إسرائيل على غرار هدنة 1949، وأنه خرج من المحور الإيراني ووضب عقيدته وشعاراته الداعية إلى إزالة إسرائيل من الوجود. ويعرفون كذلك أن باستطاعة الحزب أن يطول العمق الإسرائيلي من طرابلس في شمال لبنان أو من غيرها من المدن وليس فقط من الجنوب. ويدركون، أن القرار 1701 من حين صدوره رفع مركز «حزب الله» العسكري إلى مرتبة جوهر الاهتمام والقلق الدولي، لكنه جعل موضوع سلاح «حزب الله» شأناً داخلياً لبنانياً والقاصي والداني يعلم أنه ليس كذلك.
وماذا عن باقي بنود القرار لا سيما ذاك المتعلق بأن السلاح لا يدخل إلى لبنان إلا بإذن الحكومة اللبنانية وللجهة التي توافق عليها؟ هذا البند نمّ حينها عن نوع من التعاطي «الرومانسي» للأمم المتحدة مع مسألة «حزب الله» وقدرات الدولة اللبنانية. اليوم هذه الرومانسية هي ضرب من الأوهام مع الانهيار الكامل للدولة، العاجزة حتى عن ردع عمليات تهريب الأدوية السورية إلى لبنان، فكيف بسلاح موجه «للمقاومة»؟ لبنان أعجز من أن يمنع «حزب الله» من التزود بالسلاح، و«حزب الله» أكبر من أن يُحصر في الإطار اللبناني فقط.
في النتيجة، الانسحاب هو لصالح إسرائيل وحدها؛ لأنه قد يسمح بعودة سكان مدن وقرى الشمال، ويجلب الهدوء للقرى الحدودية، لكنه لن يجلب الحل لمشكلة سلاح «حزب الله» وسطوته وهيمنته على القرار السياسي اللبناني، وإمعانه في تفكيك أوصال الدولة. عام 2006، هذا القرار أمَّن حماية لشمال إسرائيل، وجلب الهدوء الأمني إلى الجنوب، وجعل الحزب يتخلى ولو مؤقتاً عن ساحة المواجهة المباشرة مع إسرائيل، لكنه من جهة أخرى سمح له بالتوغل أكثر في السياسة الداخلية حتى فرض سيطرته الكاملة عليها. اليوم سيتكرر الأمر نفسه على مستوى أكبر؛ لأن الحزب لن ينسحب دون ثمن، وسيكون هذا الثمن مرة أخرى على حساب الدولة اللبنانية واللبنانيين، وسيجد مبررات عدة لبقاء السلاح والانفلاش السياسي. موضع «حزب الله» إن كان في الجنوب أو في لبنان سيكون دون شك أكبر بعد «طوفان الأقصى».
الانسحاب من الجنوب لا يعني تحول الحزب إلى قوة سياسية كغيرها، ولا يعني أيضاً التخلي عن العلاقة العضوية بإيران، ولا أن الحزب نأى بنفسه عن أدواره في سوريا والعراق واليمن كرأس حربة الميليشيات الموالية لإيران وملهمها. من دون معالجة دولية لمعضلة «حزب الله» في لبنان سنبقى ضمن الحلقة المفرغة.
إلى كل ذلك تبقى العوامل الإقليمية وعلى رأسها مصير الحرب في غزة لأنه يستحيل عزل لبنان عنها. إضافة إلى ما يدور في تفكير بنيامين نتنياهو وحكومته بشأن الجنوب اللبناني و«حزب الله» بشكل خاص؛ لأن الموقف الإسرائيلي تجاه الحزب في لبنان ملتبس بشأن انسحابه من الجنوب، والبعض الآخر يتوسع إلى سلاحه ودوره في لبنان كله.
المخارج المتاحة ضيقة لأن أوروبا عاجزة، ولبنان ليس من أولويات الولايات المتحدة، والأمل يبقى معلقاً على الرافعة العربية؛ لأنها وحدها قادرة على إعادة التوازن السياسي إلى لبنان، وهو اللبنة الوحيدة التي تسمح بالشروع بتسوية واقعية مقبولة من الجميع، وحل مكامن الصراع الإقليمي تمهيداً لإرساء سلام شامل في الشرق الأوسط.