داريوش شايغان معضلة الصراع الحضاري

داريوش شايغان... معضلة الصراع الحضاري

داريوش شايغان... معضلة الصراع الحضاري

 العرب اليوم -

داريوش شايغان معضلة الصراع الحضاري

بقلم : فهد سليمان الشقيران

 

مع كل احتدامٍ بين الشرق والغرب، بين المسيحية أو اليهودية والإسلام، بين التقاليد الشرقية والأخرى الغربية، يبدو ماثلاً أمام المتابع أن صراع القيم هذا لن يوصل إلا إلى المزيد من الكراهية، ولن ينتج سوى كثير من الحروب. مع أن أسس التسامح وأفكار الاعتدال مطروحة ومدعومة من قبل الحكومات المعتدلة بالعالم، ولكن لا تستطيع المؤسسات السيطرة على مكنونات الشعوب. وآية ذلك أن الحدث المدوّي يعيد المجتمعات إلى المربع الأول، وكأن تلك الجهود ذهبت سدى. والعبء على الحكومات كبير، وهي معذورة في هذا المجال، لأن إصلاح إرثٍ طويل من السجال والتناحر والتنافر بين البشر بشتى انتماءاتهم يحتاج إلى أجيالٍ متعاقبة. الفيديوهات المتداولة اليوم بين اليهود والمسلمين تبيّن مستوى التناحر، كما حدث من قبل بين المسلمين والمسيحيين مع أحداث الإرهاب من جهة، أو حماقات إحراق المصاحف من قبل بعض المعاتيه من جهة أخرى. إنها هيمنة العوام على السجال الحضاري، ونفوذ الشعبوية على الإشكالات القيمية الكبرى.

وسؤال القيم والهوية والالتقاء الثقافي والحضاري أرَّق كثيراً من الفلاسفة الكبار، ومن بينهم داريوش شايغان الذي عكف على مثل هذه الأسئلة لسنواتٍ طوال. قد عدتُ إلى كتاباته بعد الأزمات المستجدة الحالية، ولفتني في كتابه المهم: «الهوية والوجود: العقلانية التنويرية والموروث الديني» أحد الفصول بعنوان: «القيم الكونية في عالم النسبية الثقافية»، لكن ما مقاربته لهذه الإشكالات شبه المستعصية؟!

يرى شايغان أننا حيث نعيش؛ فلكل ثقافة مطالبها الخاصة: طريقتها في رؤية العالم، وطريقتها في تقويم حقوق الإنسان، وطريقتها في تعريف استقلالية الشعوب وحقوق المواطنين. فالبعض يطالب بقيمٍ آسيوية، وآخرون بانكفاءٍ إلى الذات في رؤية منغلقة للعلاقات الإنسانية، والبعض الآخر يرى أن أي سلطة سياسية إنما تنبع من مصدرٍ إلهي. تنضوي هذه الخطابات جميعاً على تحدٍّ للغرب وللحداثة التي تكمن خلفه، ولسان حالها يقول: لستم وحدكم مَن يبتّ في الأمر، ولم يخولكم أحد فرض قيمكم علينا من جانبٍ واحد. وفوق كل هذا وذاك، يأتي ناشطو التعددية الثقافية ليضموا أصواتهم إلى هذه الاحتجاجات، فيتحدثون عن «الإرهاب الأبيض»، وعن الأضرار الجسيمة التي تتسبب فيها النزعة المركزية الأوروبية التي تعمل، في رأيهم، وفق تعارضات ثنائية. في سياق هذا التعارض يُعطى الامتياز للمصطلح الأول الوارد في هذه الثنائيات. هكذا تميل التعددية الثقافية إلى أن تصبح نوعاً من السياسة الهوياتية حيث يختلط مفهوم الثقافة، ولا بد، بالهوية العرقية، الأمر الذي من شأنه أن يتسبب في إضفاء صبغة ماهوية على الثقافة؛ بالإفراط في تحديد تمايزاتها.

ويخبرنا جورج شتاينر George Steiner كيف أن اللغويات الجديدة تُثبِت أهميتها الكبيرة في ملتقى الفلسفة وعلم النفس. توجد في الواقع علاقات متعددة بين الفكر، واللغة، والواقع.

ثمة مكتسبات بشرية (يشير شايغان) غير أن بعض الثقافات ترفض هذه المكتسبات جملة وتفصيلاً باسم القيم العرقية والدينية، وتبحث عن طرق وبدائل التفافية، لكنها لن تعثر على قيم بديلة لتغير نوعي يخصها أيضاً مثلما يخص غيرها، لأن ذلك يعني التشكيك فيما أصبح جزءاً لا يتجزأ منها. علينا دائماً أن نقيم مواقفنا الخاصة، وفق هذا المقياس؛ ذلك أن هذا الحضور، وهذه الضرورة الملحَّة للحالة الجديدة، هو الذي يدفع طغاة العالم الثالث إلى تقليد صوري هزيل لحقوق الإنسان. إن هذه القيم الكونية والمحايدة آيديولوجياً الخالية من أي انتماء طائفي، تُشكل في ذاتها هوية جديدة؛ لا هي عرقية ولا دينية، كما أنها ليست وطنية تماماً، لكنها تنتمي إلى ذلك العقل الذي من المفترض أن يسهم فيه، بلا تحفظ، وبمعزل عن انتماءاتهم الثقافية، جميعُ البشر ممن يدركون أنهم يعيشون في بداية القرن الحادي والعشرين. وإن كنا نعني بـ«كوني» قيماً تتخطى الحدود والانقسامات العرقية والارتدادات الوطنية والقطيعات التاريخية، فإن هذه القيم كونية بالفعل. يمكننا أن نرفضها وأن نختبئ داخل هوامات هوياتية، ويمكننا أن نسعى بالطرق شتى إلى إيجاد بديلٍ يُريحنا ووهم جميل، لكننا لن نستطيع أن نضعها جانباً ونواصل دربنا الصغير في العيش كأن شيئاً لم يحدث، لأن ذلك سيقودنا ببساطة تامة إلى الانغلاق، بل إلى ما هو أسوأ من ذلك؛ إلى يباس هوياتي.

لذلك، بحسب شايغان، لا مناص من الالتقاء الثقافي والحضاري، ومن دون ذلك لا يمكن الحفاظ على قيم الأنوار، بل رأى أن جميع الدول التي توهمت العثور على طريق ثالثة مخالفة لوجهة مكتسبات الإنسان الحديث حصدت إخفاقات مدوية. والقول إن مكتسبات عصر الأنوار تعمل على تجميل إمبريالية الغرب وهيمنته الشاذة لا يُغير شيئاً من المشكلة. على ثقافات الكوكب كافة أن تكون طوع بنان هذه المكتسبات، وأن تمتثل لها، لئلا تنعزل في عالم متمركز حول ذاتها؛ فتبقى وحيدة على قارعة الطريق، فضلاً عن أنه لا وجود لقيم بديلة. نستطيع دائماً أن نُلوح بالحقوق الدينية - المسيحية والهندوسية والإسلامية ونحوها - لكننا بذلك سنبقى عالقين بلا أمل في مجالٍ وهمي للأماني غير القابلة للتحقق. أضف إلى ذلك أنه إذا ما أمكن للأديان أن تتقلد زمام السلطة، فإنها ستغير طبيعتها وتخضع لسيرورة أدلجة لا محالة. فالتنوع الثقافي، رغم كل الزركشة والجاذبية اللتين تسِمانه، لا يمكن إلا لوعي تفكري ومزدوج وموسوط أن يعترف به. داخل هذا السياق تكتسي هويتنا الحداثية أهميتها، لأنها وحدها من دون غيرها تتمتع بملكية نقدية قادرة بفضل ذاكرتها الإجمالية أن تُبرز للمفارقة المستويات القديمة والمتأخرة تاريخياً عن الثقافات الأخرى، وتمنحها مساحة للوجود، وتعزز تمفصلاتها المتعددة، أي بعبارة أخرى: تستطيع أن تربط بين عوالم تعيش في عصور مختلفة، من دون إسهام الوعي التفكري والنقدي لهويتنا الحديثة.

من الواضح أن تصاعد التنافر بين أتباع الأديان وسكان تاريخ الحضارات سيزيد من احتمالات العنف، وسيفضي إلى مزيدٍ من الحروب. من الصعب وضع صفة سحرية للنجاة من هذا التلاعن الحضاري والديني، لكن يمكن للعقلاء وضع اقتراحاتٍ فلسفية وعلمية حيوية متجددة تستطيع أن تقبض على الشيطان الكامن المحرض على العداوة بين بني البشر، رغم إجماع الفلاسفة والمفكرين على أن ما يجمع بين البشر أكثر مما يفرقهم، ولكن الخطر كل الخطر في المخزون الثقافي الموروث الذي يجعل الشر المحض جزءاً أصيلاً من تكوين الآخر الديني والثقافي.

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

داريوش شايغان معضلة الصراع الحضاري داريوش شايغان معضلة الصراع الحضاري



إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:02 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتجديد المنزل في فصل الشتاء
 العرب اليوم - أفكار لتجديد المنزل في فصل الشتاء

GMT 02:02 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

أردوغان يؤكد أن الأمم المتحدة عاجزة عن حل الصراعات في العالم
 العرب اليوم - أردوغان يؤكد أن الأمم المتحدة عاجزة عن حل الصراعات في العالم

GMT 11:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يستهدف تجمعات إسرائيلية وإطلاق 30 مقذوفاً من لبنان
 العرب اليوم - حزب الله يستهدف تجمعات إسرائيلية وإطلاق 30 مقذوفاً من لبنان

GMT 10:04 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا توضح أسباب غيابها عن رمضان للعام الثالث
 العرب اليوم - شيرين رضا توضح أسباب غيابها عن رمضان للعام الثالث

GMT 06:28 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29
 العرب اليوم - غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29

GMT 05:45 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

علاج جيني مُبتكر يعيد السمع والرؤية لمرضى متلازمة آشر 1F

GMT 12:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

قمة الرياض: أمن الإقليم مرتكزه حل الدولتين

GMT 02:18 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

قرن البولندي العظيم (الجزء 1)

GMT 12:03 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

روجينا تكشف عن تفاصيل مسلسلها الجديد رمضان 2025

GMT 09:36 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزال بقوة 5.1 درجات يضرب جزر ماريانا غرب المحيط الهادئ

GMT 22:02 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتجديد المنزل في فصل الشتاء

GMT 07:54 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

حميد الشاعري يكشف تفاصيل بيع بصمته الصوتية

GMT 13:50 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

أبرز موديلات ساعات اليد لإطلالة مميزة وراقية

GMT 02:04 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

الرفاق حائرون... خصوم ترمب العرب

GMT 11:54 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

GMT 13:54 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ساعات اليد الرجالي وطرق تنسيقها مع الملابس

GMT 02:14 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

الوفاء غائب ولغة التخوين والحقد حاضرة

GMT 07:41 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مجلس الأمن يصوت على مشروع قرار يدعو إلى وقف النار في السودان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab