بقلم : فهد سليمان الشقيران
من الصعب الفصل بين حرب غزة والأزمات المتفجرة في الإقليم والعالم، حتى أزمة أوكرانيا فاعلة في لبّ الأزمة الإسرائيلية – الفلسطينية؛ لأن موسكو تتوازن في علاقاتها مع إسرائيل، فهي تناور ولكن تجعل الخلاف ضمن حالة الضبط والتحكم. من جهة لا يريد بوتين أن يذهب بعيداً مع «حماس» رغم أن الخارجية الروسية استقبلت وفداً من «حماس»، ومن جهةٍ أخرى لا يبحث عن استفزازٍ لإسرائيل يجعلها تنخرط مع الغرب في تسليح كييف، وبخاصةٍ أن الأخيرة تريد من تل أبيب معدات عسكرية متطورةٍ خصوصاً بما يتعلق بمضادات الطائرات، وإسرائيل لا تريد من روسيا أن تعطي أسلحة «فاغنر» المتطورة بدمشق لـ«حزب الله» في جنوب لبنان، لكن ثمة مناوشات، فلا ننسَ أن موسكو استخدمت حق النقض «الفيتو» ضد مقترح مالطا الذي يدعو إلى هدنةٍ إنسانية ويدين حركة «حماس»، لكن كل ذلك الخلاف موزون ببراغي الذهب حتى لا تنجرف الأمور نحو التصعيد.
روسيا تطرح نفسها بالإقليم بوصفها صوت الحكمة وسط الجنون الإٍسرائيلي والغربي، وهي تتوجه للمنطقة وتتابع بحذر مناوشات الحوثي للغرب، وضرب تل أبيب لـ«حماس»، ولكنها لن تسمح بالاعتداء على مصالحها الحيوية في المنطقة سواء في البحر المتوسط أو في الشرق الأوسط عموماً، وهي لا تفرق في نفوذها بين الشرق الأوسط وأوروبا كما يفعل الغرب، بل تعدّ نفوذها ذا كتلةٍ واحدةٍ مترابطة استطاعت روسيا منذ نفوذها في سوريا قبل تسعة أعوام أن تمزج بين التحرك العسكري، والتوازن السياسي في اتفاقياتها مع دول الإقليم، ووضعت علاقاتها مع دول الخليج على سلّم الأولويات مما زاد من متانة العلاقة وتطويرها بشكلٍ لافت. اليوم لدى روسيا أعباء كبيرة ليست بوارد احتمالها، الضربة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية لن تكون مفاجأةً بالنسبة لروسيا، كما أن تل أبيب لن تكون لتفعلها من دون علمٍ أميركي، والضربة تعبر عن استمرار تفاقم الأزمات على أثر حرب غزة لأنها لن تقتصر بتأثيرها على المحيط، وإنما سيمتد أثره نحو التصعيد الآيديولوجي، وتعزيز نزعات التطرف وغرائز الانتقام.
وآية ذلك ما جرى من تطوّر عبثي في الأردن تمت إدانته، وهو حراك لم يكن صدفةً، بل تدعمه قنوات، ورتّبت لفعله قوى راعية للآيديولوجيات الحماسية، والخطابات الشعبوية، ثمة قوى مكلومة تؤيد إعادة النفَس الثوري في الإقليم، وتدرك بذكاء أن هذه الفرصة مواتية لاستعمال مظلومية الشعب الفلسطيني المنكوب من أجل التحريض على الدول والحكومات، علماً بأن الأردن والإمارات والسعودية ومصر هي أكثر الدول فاعليةً من أجل إنهاء مأساة غزة، وهي رائدة في مجال الإغاثة الإنسانية، وتتم متابعة هذه المساعدات من رؤساء الدول بأنفسهم، ويتابعون ما يجري أولاً بأول.
إن الصراع الجاري الآن ممتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وهو مظنّة ظهور توازنات إقليمية غير التي شهدناها من قبل، ومن الضروري الإصغاء لخطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 2 أبريل (نيسان)؛ لأنه يتحدث عن منطقة ملتهبة، وعنوان كلمة السيسي العريض «نحن محاطون بالأزمات».
وهنا دور دول الاعتدال أن تضع نصب عينها تحديين اثنين؛ الأول: تحدٍّ سياسي يمكن أن تجرّه مغامرات إيران وأذرعها سواء الحوثي أو «حزب الله» أو غيرهما، والتحدي الثاني: جانبه فكري، ليس سراً أن جزءاً من صميم الصراع الجاري في العالم منبعه آيديولوجي، لنتذكّر مع المفكر الروسي ألكسندر دوغين بثّ في 24 فبراير (شباط) من هذا العام كيف أن الصراع الروسي مع الغرب أساسه ولبّه فكري، ويعدّه صراعاً يقوده المحافظون الروس ضد «العولمة» الغربية التي تريد تدمير القيم، وأن روسيا تريد إثبات تفوّقها الحضاري ضد الدعاية الأميركية التي تصف روسيا بأنها عبارة عن دولة «توظّف العصابات» كما يقول، ويدعو روسيا إلى الاستمرار بما يسميه «نفض الغبار» من أجل تحقيق أكبر قدر من الامتداد، ومقاومة النفوذ الغربي وحمولته الفكرية والقيمية التي «تغزو العالم».
علينا نحن مجتمعات دول الاعتدال إنتاج قيمنا القوية التي تحافظ على الأسس وتنفتح على الأمم، وأن نجمع بين أفضل القيم التي أنتجتها الأمم ولا نخضع فقط للقيم الأميركية، بل لدى الصين وروسيا واليابان من الإرث ما يمكن البناء عليه بغية صناعة توازن في انفتاحنا على العالم؛ لئلا نكون رهينة الغرب وحده، ولا الشرق وحده، وهذه الدعوة يطرحها فلاسفة غربيون كبار منهم داريوش شايغان في بحوثه عن «الهوية».
الخلاصة أن هذا التأزيم المصحوب بالأزمات الإقليمية والدولية قد ينتج ظواهر غير منضبطة على المستويين الفكري والاجتماعي، ومحاولة التظاهر في عددٍ من الدول دافعه معاندة مفهوم الدولة والمروق عليها، إن أزمة غزة لن تنتهي قريباً، وإسرائيل وضعت خطة لاجتياح رفح بعد رمضان، مما يعني أن النيران ستشتعل، الأهم أن نعمل على جبهتين، محاولة إخماد هذه الحرب بالسبل السياسية والدبلوماسية، والثانية أن نستعد لأي اختراقٍ داخلي يستهدف دول الاعتدال ونظم الاستقرار. ستمر ضربة إسرائيل على القنصلية الإيرانية، إيران ستنتقم عبر وكلائها لا عن طريق جيشها، لكن الأهم ألا تنجرّ المنطقة إلى حربٍ مفتوحةٍ وهذا غير مرجّح إلا أنْ فرطت الأمور، نحن على حافة الهاوية من انفلاتٍ كارثي، ولكن التعويل على الحكمة وتغليب العقل على الغريزة، والسياسة على السلاح، نحن لا نرى وميض نارٍ تحت الرماد كما يعبّر نصر بن سيار الكناني، بل نرى النيران مشتعلة في سماء سوريا وغزة وتل أبيب والبحر الأحمر.