بقلم : فهد سليمان الشقيران
للرياضة حركتها الزمانية والمكانية، ولها روحها، وعلامتها، وثقافتها. لها تاريخ متطور، وتداخل متشعب؛ فهي تنسجم مع المجالات الأخرى، على ضربين: الأول هو من صميم حيويتها وفعاليتها، كالمجال الطبي، لاتصالها بالصحة والحياة، والآخر في المجال الثقافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي؛ فهي تدخل على هذه المجالات بصفتها عملية تغالب ومقاومة ومراهنة، ومن ضمن تداخلها مع المجال الثقافي تتمكن الفلسفة من طرح الرياضة في عصب نظرياتها؛ فالأبدان القوية التي يشجع عليها روسو، أو الجسد الحي، كما يعبّر نيتشه، توصيفات تتعلق بقوة الإنسان وحيويته. والرياضة درستها الفلسفة بشكلٍ غير مباشر، وذلك لجهة اتصالها بالقواعد، والتغالب، والفضاء الذي تمارس فيه، ولوقوعها في زمانٍ ومكانٍ، ولما تحمله كل رياضة من تاريخ، وهذا هو السبب الذي دفع ستيفن كونور لتأليف كتابه المهم: «فلسفة الرياضة». يدرك المؤلف أن بين الرياضة والفلسفة انفصالاً واتصالاً.
فهو في ديباجة الكتاب يعترف بأنه «ليس هناك ارتباط طبيعي، ظاهرياً، يربط الرياضة بالفلسفة؛ فمن المفترَض عموماً، وربما تشيع الفرضية نفسها حتى بين قليلٍ من الفلاسفة، أن الفلسفة أقرب مما يمكن أن يمارسه المرء إلى التفكير المحض، الذي ينطوي (مثلاً) على فعل التفكير في التفكير نفسه. وفي المقابل، نجد أن الرياضة تنطوي على إجهاد البدن في شيءٍ أشبه ما يكون بأنقى أشكاله. قد يبدو هذا الشق بين العقلي والبدني عنيفاً أو شديداً أحياناً، ولكن غالباً ما يكون سوء توافق بين العقل والجسد، الذي حث على قدرٍ كبيرٍ من التخمين الفلسفي هو نفسه محرك الجانب الكوميدي».
والمسافة البعيدة، بحسبه، بين الفلسفة الأخلاقية والقضايا العملية تتجسد في مسرحية «توم ستوبارد»، بعنوان «القافزون» (1972) بتمثيل الفلسفة الأخلاقية بلغة الرياضة البدنية، والفجوة بين الطبيعي، وما وراء الطبيعي، هي مصدر الضحك في المشهد المسرحي الهزلي، لمجموعة مونتي بايثوني الموسيقية الهزلية، الذي يصوّر مباراة أولمبية نهائية بين فريقي كرة قدمٍ من الفلاسفة يمثلون اليونان وألمانيا، ويقود الأخير كابتن نوبي «هيغل» (ويجب أن أذكّر هنا بأن اللعبة المعروفة لملياراتٍ من البشر باسم «كرة القدم» يُشار إليها في هذا الكتاب باسم «كرة القدم الإنجليزية» المتحفِّظ، تمييزاً لها عن تلك اللعبة التي تُمارَس ببراعة، ولكن على نحوٍ أضيق أفقاً، في أميركا الشمالية، وفي مكانٍ أو مكانين آخرين، والتي لا وجود لاسم بديلٍ لها برأيي). في المسرحية، وفور أن تنطلق الصافرة، يشرع الفلاسفة في المشي بخطواتٍ واسعة حول الملعب، ولا يلاحظ أحدهم الآخر قط، غير أنهم يتأملون ويتجادلون مع أنفسهم، بينما تستقر الكرة في منتصف الملعب من دون حراك، وأخيراً بعد أن ينزل الإلهام المفاجئ على «أرخميدس»، يشن حكماء اليونان هجمة تخترق صفوف الألمان المتفاخرين، فتنتهي بـ«سقراط» وهو يسدد الكرة في مرمى الألمان. يخوض الألمان نزاعاً حول صحة الهدف، بحسب وصف المعلق على المباراة بحماس: «يحتج هيغل بأن الواقع مجرد ملحق بديهي للأخلاق الطبيعية. أما كانط، فيحتج استناداً إلى الأمر القطعي؛ بأن الواقع الموجود مجرد أنطولوجيا فقط في الخيال. ويزعم ماركس أن الهجمة كانت تسلُّلاً».
هذه المسرحية فرشت الطريق بين كرة القدم والفلسفة، عبر تكوين فريق لكل منهم حججه النظرية في الموقف؛ من صوابية الربح، والمؤلف يعترف بأن هذا الكتاب تتمة لثلة سبقوه، منهم مارك بيريمان «كرة القدم والفلسفة»، وتتمته كتاب «كرة القدم الفلسفية» الذي يطرح فيه تبديلاتٍ للمسارات المهنية الفكرية لفلاسفة، أمثال كيركجارد ودريدا، علاوةً على فلاسفة أقل شهرة نوعاً ما، مثل ديمتري شوستاكوفيتش وبول سيزان.
فالرياضة ليست لهواً، رغم ارتباطها الأولي باللهو، بل ربما كانت ضرورة كما في رياضات الصيد عند الإنسان الأول، ولكنها، مع التطور المدني، باتت سمة لبلوغ ذروة الرفاهية؛ فهي بقدر ما تمثل نوعاً من الخروج على «الواجبات» أو «نسيان المهام الجسام»، إنما تمثل في قلب ذلك النسيان ذروة التذكر للواجبات.
يدرك كونور في كتابه أنه «منذ سبعينات القرن العشرين، عندما شرع المؤرخون والعلماء في الالتفات جدياً إلى تطور الرياضة ومكانتها في الحياة الثقافية والسياسية، أمسى واضحاً أن الرياضة ذات الجماهير الغفيرة كانت واحدة من أبرز سمات الحداثة المدنية، وأكثرها تحديداً لها. ولم تشهد الرياضة مجرد تحديث في القرن العشرين؛ فما نعنيه الآن بالرياضة، نوعاً ما، ما هو إلا اختراع خاص بالقرن العشرين. وبالعكس، نجد أن الرياضة كانت واحدة من أكثر الطرائق المميزة التي تمخضت عنها حداثة القرن العشرين. ولقد التفت الفلاسفة أيضاً، خصوصاً المهتمين منهم بتطوير الأشكال الحديثة للحياة الاجتماعية والاقتصادية، على نحوٍ متزايد ومطرد، إلى الرياضة خلال القرن العشرين، وهي الفترة التي اتخذت فيها الرياضة أشكالها الحديثة المنظمة».
لا بد من الإشارة إلى أن «السؤال الذي طرحه كثير من هؤلاء الفلاسفة هو ما إذا كان المنطق يلزم النظر إلى الرياضة بوصفها معارضة للمجتمع الجماهيري المدني الآلي المنظم الذي شاع خلال القرن العشرين، أم معبرة عنه. وكثير من الكتاب المحافظين الفاشيين أنصار النظرية العضوية، الذين تميزت عندهم الرياضة بالطاقة والحافز والديناميكية، رأوا فيها احتجاجاً ناقماً، ومن بين أكثر هؤلاء تشدداً خوسيه أورتيغا إي جاسيت الذي يؤكد في كتابه (تأملات حول الصيد) الذي نُشِر للمرة الأولى عام 1934 التسامي الأرستقراطي لعالم الضرورة المجتمعية، أو الاحتقار الموجه له. وفي مقالة لاحقة نُشِرت عام 1940، قدم جاسيت إعادة عرضٍ للتعارض بين الرياضة والعقلانية، على هيئة تفكر عجيب في أصول الدولة نفسها. إن المبدأ الأساسي الذي يحرك مقالة جاسيت هو عدم قابلية اختزال الحياة في المنفعة». (ص43 - 44).
الخلاصة أن الرياضة أقوى من اللهو، وأبعد من المنفعة؛ فهي فسحة في فضاءٍ وزمانٍ ومكان، وكرة القدم من الرياضات التي جذبت العديد من الفلاسفة لدراستها، باعتبارها غنية بالمفاهيم وجريئة في ربط المجالات وتدبير الاشتباكات، فبقدر ما تغري المقامرين والمراهنين وتدفعهم نحو مزيدٍ من المخاطرة السحرية، فإنها استطاعت أن تفرض راهنيتها، ليس في المجال السياسي والاقتصادي والثقافي فحسب، وإنما بالمجال الفلسفي أيضاً على النحو الذي قرأناه في كتاب ستيفن كونور.