بقلم : فهد سليمان الشقيران
تفجّر الأحداث السياسية أسئلتها الكبرى؛ وذلك على أكثر من صعيد، منها السؤال الأخلاقي، وكذلك الاجتماعي، وليس انتهاءً بالفلسفي. كل الحروب هي ذروات لمشكلاتٍ متشعبة بعضها ديني، أو عرقي، أو قبَلي، تأتي الحروب لتمحض هذه المشكلة أو تلك، وتجعلها في مسار الفحص أو الاختبار. وآية ذلك أن الحروب الدينية الملحمية هي التي أنتجت العلمانية، والحروب الأهلية الأوروبية الدموية فجّرت أسئلة الحرية والليبرالية والتجاوز التي ينعم بها معظم العالم اليوم. إن تجاهل المشكلات أو إهمالها يدفعها نحو التصاعد مما يؤسس لنمطٍ من عدم الاستقرار على النحو الذي يعيشه البعض اليوم من حروبٍ طاحنة كان يمكن تجاوزها لو أن ثمة تعقّلاً في فهم المشكلة وإدارة الحلول من دون الاضطرار إلى خوض هذه النزاعات التي لا طائل منها. حلول كثيرة كانت بمتناول اليد، ولكن بعض الأصوليين يريدون البقاء في المنطقة الرمادية وهي حالة «الاضطراب» التي تمنحهم المشروعية الاجتماعية وتعطيهم المدد السياسي الشعبي، وترفع مستوى استقطابهم السياسي.
الصراع الدائر الآن جلّه حول الموضوع السيادي؛ نتذكّر نظرية جان بودان، وهو من فلاسفة التنظير «السيادي»، كتب عنه أحمد الزاهد في مجلة «حكمة»، وهو منظّر عتيد في موضوع السيادة والسياسة، نعتبر بنظرته وقوله؛ حيث يقول الباحث الزاهد إن «أغلب الدارسين لفكر جان بودان يدركون أنه لا يمكن التغاضي عن الخلفية الجوهرية في مقاربة نظرية السيادة، التي تكمن في ضرورة استحضار السياق السياسي المباشر لفرنسا، الذي كان مسرحاً لفصول دموية وأحداث عنف قاسية انتهت بمذبحة سان - بارتيليمي سنة 1572. لا يمكننا إنكار حجم هذا الواقع على ترسخ وعي بودان بمباشرة التأليف في السياسة وإنتاج نظرية السيادة. كما لا يجدر بنا تجاهل منحى آخر في مسيرة بودان المتمثل في عمله الأكاديمي، بحيث كرس عقوداً طويلة لدراسة الأسس التاريخية والقانونية الخاصة بالدولة، بغية التأصيل النظري لقواعد السيادة وفق تصور فلسفي جديد». بل «لا يكمن مسعى جان بودان فقط في بناء منظور يسمح بإقرار فلسفة النظام من خلال وضع قواعد تهم احترام الاستقرار، بل لا تتصل إقامة النظام ضرورة بالحاجة إلى توسل مفهوم السيادة. ووفق هذا المقصد، تبرأ بودان من مقاربة السيادة بمقولات تجريبية من خلال الاتكاء على حقل القوة لتحديد الأصول الرئيسية والدلالة الجوهرية للسيادة. وبدل ذلك رسم لنفسه طريقاً آخر، إذ أرجع السيادة إلى معيار الحق، وأضحت السيادة تدل، حسب هذا المنظور، على النهل من مرجع الحق. انطلق بودان من ميدان الفقه القانوني بغية التأصيل لمفهوم السيادة، بحيث أسعفه القانون في تناول منطق السيادة بتوسل الحق بدلاً من القوة».
لكن ما هو المستوى القانوني لهذه التعاقدية السيادية؟!
يجيب بأن «إلقاء المزيد من الضوء على السلطة المطلقة للسيادة من خلال مناقشة قضية الالتزام داخل ميدان العقود. أيقن بأن كل واحد من أطراف الالتزام ملزم بتنفيذ واجباته التعاقدية، مثلما نصت على ذلك الأنظمة القانونية. لا يرتبط تنفيذ أفعال الالتزام بإملاء صادر من التشريع الوضعي لصاحب السيادة، مما يجعله واجباً شرعياً يحكم أطراف التعاقد. بالنسبة إلى بودان، يكون صاحب السيادة (ملزماً بالتعاقد بينه وبين رعاياه). يعود السبب النهائي في التزام أطراف التعاقد إلى كون تنفيذ الالتزام يدخل في باب الواجب الشرعي الطبيعي، الذي يحيل على الشريعة الطبيعية، وفي الوقت ذاته إلى قانون الشعوب، بحيث يهم البشرية جمعاء، ولا يستثنى من ذلك أصحاب السيادة. كما أنه لا يمكن لأصحاب السيادة استعمال السلطة المطلقة للتنصل من الالتزامات التعاقدية بصورة شرعية، من دون موافقة الأطراف الأخرى المشكلة للتعاقد».
الحدث السياسي لا يمكن عزله عن تاريخه؛ إذ يمكن اعتباره حصيلة أمشاج من التراكمات التي لم يتمكّن أهل الحدث من حلّه، ومن ذلك ما يجري الآن على أكثر من صعيد. كان يمكن تجاوز مثل هذه الكوارث عبر عمليّات أكثر دقة، وباستثمار فرص حيوية كانت بمتناول اليد. القضية الأخلاقية أو العادلة يمكن حلها بالتجاوز السياسي، والتعاقدية القانونية، وهذا جزء من السيادة، كما قرأنا في نص بودان.
والحدث السياسي، كما عبّرت من قبل في هذه الجريدة وبتحليل الفيلسوف موران، يعبر عن مشكلات صعبة معولمة، ما يجعل من الصعوبة بمكان امتلاك الوعي. وعدم القدرة على تصور الطابع المعقد لعالمنا تجعل من الصعب التفكير في سياسة ذات طابع معقَّد للحضارة. وهناك أيضاً مشكل الزمان... إننا نعيش في مرحلة تشهد تسارع السيرورات، والسرعة الكبيرة للتطور تساهم في إعاقة وعينا بالواقع. لقد كان هناك دائماً تأخر للوعي على التجربة. وكما قال أرتيغا يي غاسي: «إننا لا نعرف ما يحدث، وهذا بالذات هو ما يحدث». وقال هيغل «إن طائر المينرفا يحلق دائماً في الغسق». ويزداد التأخر استفحالاً في زمن متسارع. وتخضع سلوكياتنا في الآن نفسه لتشتت يمنع كل تفكير معمق. إننا نتحرك أكثر مما نتصرف، ولا نتمكن من الوعي بالحاضر. ونحن نعاني من مشكل التأخر الحتمي للوعي على المعيش، الذي تعمقه سرعة الأحداث وتعقد الظواهر. وفوق ذلك، لا تسمح مسارات التفكك داخل حضارتنا بإدراك مسارات ممكنة لإعادة التكون. والمجتمعات المعقدة تتطور حسب مسار التفكك - وإعادة التكون. وكما يقول ألان كايي إن «الكارثة حاضرة هنا باستمرار، و(...) مع ذلك فإنه يتم إبعادها بدرجات متفاوتة من النجاح». لكن المجرى أصبح شديد السرعة؛ فهل نحن نسير نحو طفرة، أم تغير، أم تقهقر؟
الخلاصة، إن وعورة الحدث السياسي يجب ألا تنسلخ من تاريخيته... بل يرتبط (الحدث) بعصب موضوعه جل المشكلات السياسية، أو التي يراد لها أن تكون سيادية، هي ذات بعد تاريخي بامتياز... ومن أجل حل أي معضلة علينا التأمل الشديد بالتاريخ، كما يفعل الأوروبيون يومياً مع تاريخهم. إنه تاريخ مضطرب ونزّاع نحو العنف والحروب، ومع ذلك كان بإمكانهم تجاوز المشكل السياسي وآثاره على السيادة، بسبب درسهم لتاريخ هذا الحدث أو ذاك.