حديث المسيري وارتجاله في المحاضرات لا يُملّ؛ لا شك أنه مفكر موسوعيّ، وذو حجة ضاربة، ولكن الاختلاف معه مبهج، لأنك تختلف مع عالم له عُدّة فكرية وفلسفية عالية.
المسيري تقلّب وتعدد في مجالاته الفكرية، وفي آخر المطاف آلت به الشكوك الوجودية نحو تيارات اليسار، والظاهرة الإسلامية بعمومها، ولا عجب أن يلوذ به كبار الإسلاميين مثل طه جابر العلواني من أجل تحقيق نقطة ضد العلمانيين في ذروة شرحه للعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، وهو كتاب أدبي أكثر مما هو فلسفي، بل هو تأملات عالية الصوت، وقد انتقده الأستاذ حمد الراشد في كتابٍ مستقل بعنوان: «ضد المسيري».
اليوم تعاد مقولاته عبر التطبيقات ومصدرها المؤكد مدافع الإسلاميين، إذ وجدوا في مقولاته بعض ضالّتهم، فراحوا يتباهون بها، بل يحاربون بها. وكتبه عن الغرب والتكوين اليهودي سرق أفكارها البعض من دون أن يشيروا إليه، وحين سألت أحد السعوديين الذين لديهم مؤلف عن الغرب انزعج وأُصيب بهستيريا صاخبة لأنني أصبته في موقعٍ يعلم أن أحداً لن يقوله له. لكن ما مشروع المسيري؟!
* مشروعه الضخم الذي شيَّده في موسوعته عن اليهودية والصهيونية سَحَرَ العرب، وشحذ قرائحهم لتسطير أعلى آيات الثناء لنقرأ مثلاً كتاب «بحوث ودراسات عن عبد الوهاب المسيري»، جُمعت في مجلدين من إصدارات «دار الشروق» فقد طغى على البحوث طابع الثناء والتبجيل.
* ما يهمني هو إنتاج المسيري المتصل بالفلسفة، فهو «هيغليّ» الجذر، ومن جهة أخرى فهو يصنّف نفسه على أنه سليل مدرسة فرانكفورت، ولا عجب، ففكرة «التشييء» ونقد «العقل الأداتي» كلها أفكار فرانكفورتية، طُرحت لدى جورج لوكاتش ويورغن هابرماس.
* رأى المسيري أنه عبّر عن «نهاية التاريخ» قبل فرنسيس فوكوياما مع اختلافهما في النتائج، فالأول ليبراليّ أميركيّ النزعة، والآخر يساريّ عربيّ النزعة، الحسّ القومي حكَم كتبه الأساسية، مع أن فوكوياما والمسيري سقايتهما من النبع «الهيغليّ» الواسع، غير أن فوكوياما رأى أن نهاية التاريخ تتمثّل بـ: «نهاية الآيديولوجيات وتسيّد الإمبراطورية الأميركية، والفكرة الرأسمالية للعالم». بينما قرأ المسيري في الصهيونية والنازية تجليات نهاية التاريخ (انظر كتابه: الصهيونية، والنازية، ونهاية التاريخ).
* لقد كان يمنّي نفسه أن يطرح نظرية تشبه نظرية «هيغل» غير أن التحوّلات التي واجهها كانت ثقيلة لدرجة جعلتْه ينضمّ في آخر حياته إلى تجمّع «كفاية» الذي لا يتوافق مع فكر المسيري وحيويته، بل قام الإسلاميون باستثمار كتابه «العلمانية الجزئية، والعلمانية الشاملة» لضرب العلمانية، فتم تدجين نتاجه، خصوصاً بعد تحولات في موقف المسيري من «المادية» ومن «الفكر الإسلامي».
* من التأسيسات التي قام بها المسيري، تأسيس حسّ أكاديمي بدأ ينشط في الفترة الأخيرة، يقوم بربط النتاج اليهودي بالحضارة الغربية من أجل رسم مسار تحذيري من مستجداتها، وهذا هو السبب الرئيسي في هجوم المسيري على جاك دريدا شخصياً وذلك في مواضع من موسوعته عن اليهودية والصهيونية، وقد تلقّف بعض نقاد ما بعد الحداثة تلك التعليمة، فتم وصف دريدا بـ«الحاخام المنزلق»، فهو يقرأ مرحلة ما بعد الحداثة على أنها تجسّد «النهاية» فهو -على حد وصف المفكر البحريني الراحل محمد أحمد البنكي: «يقرأ المشروع الحضاري الغربي بوصفه نموذجاً يأخذ شكل متتالية، تتحقق في الزمان، تأخذ شكل حلقاتٍ تتبع الواحدة الأخرى ويمكن تلخصيها فيما يلي: نقطة بداية يواجه فيها الإنسان الكون دون وسائط معلناً أنه سيد الكون ومركزه وأنه مرجعية ذاته، تتحول هذه المركزية من الذات الإنسانية العامة إلى الذات الفردية الإمبريالية التي تستبعد الآخرين، يصبح إنساناً عنصرياً وتظهر ثنائية الأنا والآخر».
* أما بصدد هجوم المسيري على «التفكيك»، فهو يرفض ترجمة المصطلح: Deconstruction إلى «التفكيك» ويقترح ترجمته إلى: «الانزلاقية» من هنا يدخل على الربط بين التفكيك وما بعد الحداثة.
* يستمر البنكي في دراسته كاتباً: «إن فكر ما بعد الحداثة؛ تقويضيّ مُعادٍ للعقلانية، وللكليات، سواء كانت دينية، أم مادية، والقسمة بينهما كالقسمة بين النظرية والتطبيق عنده، الرؤية الفلسفية هي (ما بعد الحداثة) أما التفكيكية فهي (منهجها) في تفكيك النصوص وإظهار التناقض الكامن». (انظر دراسة البنكي للمسيري ضمن كتاب: جاك دريدا عربياً، ص 281) فهو يتربّص بما بعد الحداثة، ويمثل على نظرياته بأحداث متوزعة، تبدأ بمقولات لجاك دريدا وتنتهي باستشهادات تضم حتى موضات «مادونا»! (انظر كتابه: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، في مجلدين ضمن مطبوعات «دار الشروق»).
* يتّضح أكثر رأي المسيري فيما بعد الحداثة في النصّ الآتي: «وُلد مشروع ما بعد الحداثة على سرير المرض، وصحّ نعت مولود ما بعد الحداثة بأنه حالة من التعددية المفرطة التي يتساوى فيها المقدس بالمدنس، والمطلق بالنسبي، وأما النسبية فصارت هي القانون الذي تغيب عنه كل مفاهيم المرجعية والمعيارية، واهتزّت اللغة وفسدت كأداة للتواصل بين البشر، وراحت الدوالّ تتراقص دون نطق، بعد أن اختفى المركز ولم تعد هناك نواة تنطلق منها المعاني أو تتمحور حولها». (انظر موسوعة: اليهود واليهودية والصهيونية، المجلد الخامس، ص 415).
* في ذلك النص الذي يشبه الموعظة الحسنة التي تُوجّه إلى العالم بغية كشف نقائص ما بعد الحداثة، يبيّن كم أن المسيري لم يكن يفصل ما بعد الحداثة عن قضاياه السياسية، فهو يُرجع ما بعد الحداثة إلى كونها المشروع الصهيوني الكامن، متناسياً أن الفلاسفة لا يعبّرون عن آرائهم وفق تعليمات تأتيهم من الساسة فهم يفكّرون بشكلٍ مستقلّ، وإذا كان المسيري يأخذ على دريدا ولاءه لجذوره اليهودية، فإن المسيري نفسه لم ينفكّ عن الإلحاح على ضرورة ولاء الإنسان لجذوره، ونعرف أن فلاسفة ما بعد الحداثة لم يكن لديهم موقف واحد إزاء موضوع «فلسطين» نذكر هنا خلاف جيل دلوز مع ميشيل فوكو حيث عتب دلوز على فوكو انحيازه التام لإسرائيل بينما لم يكن دلوز ضد الفلسطينيين بل كان مع إنشاء دولتين تعيشان بأمان جنباً إلى جنب، كما أن بعض نقاد ما بعد الحداثة لم يكونوا إيجابيين مع القضية الفلسطينية، واستدلّ هنا بموقف يورغن هابرماس المناهض «لتمرّد الفلسطينيين».
الخلاصة؛ أن المسيري مفكّر له تجربته العالية، والنتائج التي وصل إليها كانت بمثابة تجربة وجودية، ولا يمكن للإسلاميين الاستناد إليها، والعتب عليه أنه منحهم هذه الفرصة، وإلا فإنه في عمقه يساريّ النزعة، نازلَ الليبرالية والتشييء الذي كتب عنه لوكاتش، ولم يكن ضد العلمانية بعمومها، وإنما اخترع لهجومه مفهوماً اعتباطياً هو: «العلمانية الشاملة»، ولهذا حديث يطول.