بقلم : فهد سليمان الشقيران
لكل حدثٍ سطحه وعمقه. في السطح ثمة صورة وشعارات وردّات فعل تقليدية. في العمق يحفر الحدث تاريخاً آخر في محيطه. كالذي أحدثتْه الحروب الأهلية، تلتها الحروب العالمية، ومن ثم الأحداث المتشظّية التي تسببت بها حالات التمزّق بين الثقافات، والصراع بين الحضارات، ويأتي المثال الساطع على هذا حادث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وما خلّفه من آثار لا تزال متصاعدة حتى يومنا هذا. في السطح يتجه الناس لتحليل الحدث وتناوله عبر التداعي، والتشاكل، والتشابه، عبر التحليل السياسي أو الأثر الاقتصادي، أو الحمّى الاجتماعية التي تضارعه وتحايثه. ولكن قيمة الأحداث مهما كانت كارثية في آثارها التي تجلبها، وهي بالضرورة ليست آثاراً إيجابيةً على الدوام، بل ربما عبّدت بعض الأحداث الطرق المؤدية إلى الهاوية، ليست إلا وادياً من الضياع السحيق.
كل مجتمعٍ مسّه أثر الثورة التي عاشها، من القرون الوسطى، إلى مجتمعات الثورة الصناعية، إلى التطوّرية العلمية، وصولاً إلى عهد استعمال القنبلة الذريّة - عهد أصاب الكثيرين بالذهوب كما يعبّر الفيلسوف جون راولز الذي شارك في الحرب العالمية الثانية، وعاصر وعايش حرب فيتنام - وليس انتهاءً في زمن العقل الأداتي، ومن ثم تفجّر التقنية، والذي تلاه ما نعيشه من عصر ما بعد التقنية، والذي يتمثّل في ثورة الذكاء الاصطناعي، كل مجتمعٍ تخضّه أحداث عصره، لتغيّر مسار أجيالٍ بأكملها، والذي يعيش النقلات النوعيّة لا يدرك مستوى التغيير لأنه منغمس فيه من دون أن يشعر، ولكن حين يقرأ من بعدنا تاريخ عصرنا سيراه بصورةٍ أوضح وأدق؛ لأنه يطل من نافذة التاريخ ويرقب من شرفة الزمن.
سؤال المجتمع، والحدث، والنقلات الكبرى للمجتمع، أرّق كثيراً الفيلسوف المرموق آلان توران، وخصص مبحثاً غاية بالأهمية، تحت عنوان: «هل فكرة المجتمع ضرورية»؟!
يرى توران: «ومثلما ارتبطت الثورة الصناعية بتصور جديد للوقائع الاجتماعية، فإن الفكر الاجتماعي في قرننا هذا قد سيطرت عليه أيضاً فكرة انقلاب العلاقات السياسية والتاريخ، أي بين الفاعل والنسق. فالمجتمعات المعاصرة لا يمكن أبداً وضعها في التاريخ؛ لأنها تنتج تاريخها. ففكرة النمو تحل محل فكرة التطور، وقد اختارت الجمعية العالمية لعلم الاجتماع كعنوان لمؤتمرها شعار: «دروب النمو»، وهو جمع يرفض كل رجوع إلى هذه النزعة التطورية التي سادت الفكر الاجتماعي من أوغست كونت إلى تالكوت بارسونز. من المستحيل اليوم الاعتقاد بأن أنماط المجتمع تتوالى وتتلاحق في خط مستقيم، وبأن الاشتراكية تتلو الرأسمالية، وبأن تقسيم العمل وإضفاء الطابع الدنيوي والأداتي على العقل تحقق وتنشر باستمرار المزيد من الانتصارات. فالنمو والأزمة، والحروب والثورات، والفاشية، والشيوعية، والنزعات القومية، وحتى سياسات تحقيق العيش الرغيد، تُظهر قدرة مجتمعاتنا على خلخلة وجودها الخاص ذاته، وعلى تحويل اقتصادها ونظامها باسم أفكار وبدلالة أشكال من اكتساح وممارسة السلطة».
بل يذهب أبعد من ذلك حين يثوّر نظريته حول المجتمع قائلاً: «إن التنظيم الاجتماعي لا يمكن إذن أن يظل متصوراً على شكل قطار يكون فيه الاقتصاد، أو على عكس ذلك الأفكار، هو القاطرة المحركة. إن هذه التجربة الجديدة التي تشمل الكرة الأرضية كلها، لا فقط البلدان (الحديثة) وحدها، يمكن أن تقود إلى وجهتين مختلفتين تماماً. فهي تحتم علينا إقامة فصل، بل تعارض بين سوسيولوجيا الفعل وسوسيولوجيا النمو. فالأولى تُحِل بشكل نهائي فكرة منظومة العلاقات الاجتماعية محل فكرة المجتمع، أما الثانية فإنها على العكس من ذلك غالباً ما تطابق فكرة المجتمع مع فعل الدول التي هي في نفس الوقت مذهبية ومحققة للتحديث. ولننظر أولاً إلى حالة المجمعات التي تجاوزت الاقتصاد الصناعي لتصل إلى أعلى درجة من درجات التدخل في ذاتها. تبدو هذه المجتمعات في أغلب ميادين الحياة الاجتماعية وليس فقط في ميدان الإنتاج، وهي محكومة بأجهزة التقرير والتسيير التي تفرض على الجمهور نوعاً معيناً من الاستهلاك، وبالتالي نوعاً من السلوك الاجتماعي، وهو ما يولّد كمقابل لذلك نماذج استهلاكية مضادة، نماذج ترفض تأثير منظومة العرض وتدعو إلى مراعاة الحاجات الطبيعية، لكن التي يمكن اعتبارها أيضاً، وبعمق، كأنها تعبير عن إرادة ورغبة في الاستقلال الشخصي والجماعي، أي رغبة في التسيير الذاتي. وهكذا فمجموع ما كان يبدو أنه مؤسسات يتحول إلى مجال لعلاقات اجتماعية، علاقات سلطة وحركات اجتماعية للمعارضة. وذاك هو معنى حملات الرأي والتجديدات الثقافية والأزمات التي تتكاثر منذ خمس عشرة سنة في الولايات المتحدة الأميركية، هي في أميركا أكثر منها في أوروبا الغربية وفي اليابان، والتي أنهت عملية القضاء على مفهوم المجتمع».
ثم يوضّح ضمن قلقه حول المجتمع وعلاقاته بالصراعات والأحداث، بأن المجتمع ليس «ماهية»، بل هو «حدث»، بالنسبة إليه: «ومن الآن، المجتمع لم يعد مبدأ وحدة، بل هو نتيجة صراعاته الاجتماعية، ونتيجة التوجهات الثقافية الكبرى التي هو مجالها ومدارها. ليس المجتمع ماهية، بل هو حدث. وكما أن نظاماً معيناً ليس إلا الحالة غير القارة والمؤقتة للعلاقات القائمة بين المجموعات الاجتماعية التي تملك أو لا تملك السلطة ضمن حدود معينة، فإن مجتمعاً ما ليس إلا مزيجاً متغيراً من الصراعات الكامنة أو المكشوفة، ومن أشكال التفاهم والحوار، ومن أشكال السيطرة المفروضة، ومن العنف والفوضى. إننا لا يمكن أن نفهم الفاعل الاجتماعي من خلال المجتمع الذي ينتمي إليه، بل يجب الانطلاق من الفاعلين الاجتماعيين، ومن الصراعات القائمة التي تجعل بعضهم في مواجهة بعض، والتي ينتج المجتمع نفسه عبرها، وذلك حتى نفهم كيف تنشأ مقولات الممارسة. وبألفاظ تقليدية يمكن أن نقول إن القيم الثقافية هي مدار صراع اجتماعي تكون نتيجته إضفاء صبغة مؤسسية جزئية على معايير تتحول بدورها إلى شكل من التنظيم الاجتماعي. إن علم الاجتماع يمكنه إذن أن يبعد عنه نهائياً فكرة المجتمع. وقد كتب البيولوجي فرنسوا جاكوب أن البيولوجيا المعاصرة قد نشأت عندما لم نعد نتساءل حول الحياة، وأخذنا ندرس الكائنات الحية. وبنفس الكيفية، فإن علم الاجتماع يولد حقاً عندما يبعد عنه فكرة المجتمع ويقتصر فقط على دراسة العلاقات الاجتماعية».
الخلاصة أن توران يعدُّ الحدث له محوريّته في توجيه المسار الكلّي للمجتمع، فالمجتمع ليس فرداً حتى يتصف بالماهية، بل المجتمع بعمومه حدث متشظٍّ على الدوام، ولا يؤمن توران بالنقلات ذات التسلسل الحتمي على طريقة التفسير الهيغلي للتاريخ، ولا بالتطوّر الاقتصادي على طريقة ماركس في تحرير المجتمع من الطبقة المهيمنة، بل المجتمع لا يتطوّر وإنما ينمو، فالنمو أشمل وأدق من وصف التطوّر، تلك هي قراءة آلان توران للحدث وهي قراءة فريدة.