بقلم - فهد سليمان الشقيران
لم تنقض بعد آثار أحداث الانتفاضات العربية؛ فهي منذ بدئها عبارة عن حراك أصولي، مدعوم من دول تستثمر وتدعم منظمات: «الإخوان المسلمين، وحزب الله، وحركة حماس، وتنظيم داعش، وجبهة النصرة، والحشد الشعبي، وبوكو حرام». حراك طويل سالت على أثره دماء ملايين الأبرياء باسم الحرية والثورة والديمقراطية، وإزالة الطغيان، وإسقاط النظُم. شعارات رنانة جرفت معظم الكتّاب والمعلقين والمفكرين، بل وبعض صناع القرار وحاملي المسؤوليات آنذاك. كتبتُ حينها منذ اللحظة الأولى مقالة عنونتها بـ«ربيع تنظيم القاعدة»، والواقع أن هذا العنوان بدا مقارنة بالأثر اللاحق فيه الكثير من التفاؤل، إذ تبين أنه ربيع مورق ومزهر لجميع التنظيمات الأصولية والإرهابية في جميع أنحاء العالم.
كما بقي قلة من الكتّاب يعارضون ذلك التجمهر، كانت دول قليلة تعي خطورة أثره، من بينها الإمارات والسعودية، ويذكر أوباما في مذكراته «أرض موعودة»، أن الحراك كان محل استقبال من الأميركيين، ذلك أن العقيدة المعتمدة حينها تؤيد اعتبار «الإخوان المسلمين» من ضمن الحلول لما يسمونه الطغيان، أو الاستبداد بالحكم، أو تهميش إرادة الشعوب، وقد أفرد فصلاً طويلاً عن قصته مع الحركة المنتفضة في مصر، وكان تبريره يعتمد على نقطتين؛ أولاهما: أن الجيش المصري والأجهزة الأمنية مدعومة من الأميركيين، وحين يصمت عن «قمع الثورة» إنما يكون شريكاً في العمل الأمني، لذلك أصر على موقفه ومضى حتى النهاية. ثانيتهما: أن الشعوب العربية بمعظمها محافظة، و«الإخوان المسلمون» - حسب فهمه - يحققون المحافظة الاجتماعية، مع ضمانة الديمقراطية وحق الانتخاب، وحقوق المرأة... إلخ. وهذه الفكرة مترسخة ومتجذرة لدى تيار عريض في الأكاديميا الغربية ومراكز الأبحاث ولدى كبار المؤرخين حول الحركة الإسلامية في أوروبا وأميركا، وهذا يعبر عن نجاح نفوذ «الإخوان».
أعيد فتح ملفات ذلك الحراك الكارثي بعد تصريحات جديدة للداعية الكويتي طارق السويدان، وهو من قيادات جماعة «الإخوان» في الخليج، بل وعلى قوائم لدى عدد من الدول، ينكر في تصريحه المتلفز «تأييده للثورات» لأنها أداة تخريب وهدم، بالمقابل كانت تصريحاته ومواقفه الموثقة على قنوات «الإخوان المسلمين» ومنابرهم في الخليج تدعو لمواجهة الحكومات بشكلٍ صريح وواضح، هذا القول يجعلنا نحلل أكثر معاني التأقلم الإخواني مع الواقع الجديد الذي رسخته دول الاعتدال في المنطقة ممثلة بالسعودية والإمارات ومصر، وبقيادات هذه الدول الحازمة مع التنظيمات الأصولية.
طارق السويدان داعية كويتي، ومنتمٍ بشكلٍ منظم لـ«التنظيم الدولي للإخوان المسلمين»، وقد عرف بشكلٍ واسعٍ بعد سلسلة أشرطة كاسيتات حول تاريخ الخلافة الإسلامية المتعاقبة، وكان اسمه محل تداول لدى الصحوة الإسلامية بالسعودية في التسعينات.. كان الصحويون يستفتون العلماء حول جواز سماع أشرطته، بخاصة حول مرحلة «الفتنة» بين علي ومعاوية، بالإضافة لموقف السلفيين منه باعتباره «يحلق لحيته» و«يسبل ثوبه»، ولكن عموم الصحوة الإسلامية كانت منساقة مع طرح السويدان الذي يعيد إلى أذهانهم أمجاد الخلافة الإسلامية وأساطيرها في الغزو والصراع.
ثم دخل في عالم التدريب أي «تدريب القدرات الشخصية»، وهو مشروع صحوي قديم له كتبه ومؤلفاته وتطبيقاته، جرفت هذه الدورات جموع المتحمسين لكتيبات هدفها «تطوير القدرات الذاتية، إطلاق المارد من القمقم، من سرق قطعة الجبن خاصتي» وسواها، واستثمر الإخوانيون في كتب تدريب عديدة، بل وبعضهم قام بتأليف كتب تدريبية؛ بعض المؤسسات الأمنية أدركت خطورتها مبكراً فمنعتها، وأذكر أن أحد الكتب كان مستطيل الشكل وفيه خطوط ومربعات تم تداوله في عام 1998 في السعودية وكان يباع خفية على الكوادر الصحوية بسبب منعه، ولا يحضرني اسمه الآن.
الآن يعود السويدان من جديد ليقول إن الثورات سببت الدمار، لم يكن لوحده في هذا الحراك، بل كان ضمن مجموعة كبيرة غطاؤها مؤسسات مثل: «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، «التنظيم الدولي للإخوان»، ومجالس إفتاء أوروبية، ومنظمات إسلامية أميركية مثل منظمة «كير».
لكن السؤال، لماذا يتفوه طارق بهذا التصريح الآن؟!
منذ زمنٍ ونحن نقول، إن تنظيم «الإخوان المسلمين» أخطر تنظيم أصولي في التاريخ الحديث، لديه نقاط قوة كبيرة. والتنظيم الدولي لـ«الإخوان» شديد الفتك وماكر التخطيط، ولا يشترط أن يكون الإخواني «ملتزماً» بالمعني الشرعي للسلوك في العبادات والمعاملات، بل قد يكون أتعس خلق الله وأفسقهم، ولكنه منظم إخوانياً، ولدى التنظيم تكتيكاته في اختيار أوقات الانسحاب والانكماش، تاريخهم في مصر يشهد على ذلك كل السحق الذي قامت به الحكومات المتعاقبة منذ عبد الناصر وحتى اليوم كان ينبئ بعودة تشبه عودة الجرذان إلى الجحور، ولكنهم سرعان ما يخرجون بشكلٍ منظمٍ وبخططٍ أخرى، بخاصة أنهم مدعومون من دول فاحشة الثراء ولديهم مصادر كبيرة تمدهم بالمال مما يجعلهم قادرين باستمرار على الخروج من الضربات المتتالية.
وبناءً عليه، فإن «الإخوان» اختاروا الآن الهدوء والتراجع، وهذا أمر يستمدونه من الشريعة، ويقيسون فعلهم على المرحلتين في الدعوة للإسلام، «المكية» حيث الجمع والحشد والصلاة في البيوت وعدم المواجهة، وبين المرحلة المدنية حيث التمكن والسؤدد والمواجهة والقتال.
إن الحديث المتقارب مع رأي الحكومات من قبل قياداتٍ إخوانية، سواء حول الانتفاضات العربية قبل عشر سنوات، أو دعم بعض المشاريع، أو التملق للمسؤولين ليس سوى حيلة معروفة، مسرودةٌ مثيلاتُها وأضعافها في تاريخهم، ولذلك لا بد من حشد فكري وقانوني دولي على مستوى سياسي عالٍ لتصنيف «الإخوان المسلمين» جماعة إرهابية في أميركا وأوروبا والدول ذات التأثير والقوة، مع التركيز على محاربة وتجفيف منابع الفكر الإخواني في المدارس الحكومية، والكليات العسكرية، والجامعات، والمؤسسات الدينية، يتزامن كل ذلك مع استمرار سحق فروع حركة «الإخوان» على المستويين الأمني والقانوني.
إنهم نوابٌ في برلمانات ليست بعيدة، ولهم فروع مفتوحة بدولٍ مجاورة، ومحطات تلفزة يتقافزون فيها ويزعقون، هذا يجعل التحدي أمام الحكومات أصعب، والحل برأيي من أجل وضع استمرارية في الحرب على تنظيم «الإخوان» الذي لا يقل خطورة عن النازية والفاشية في أمرين؛ أولهما: إبقاء العيون مفتوحة على أنشطتهم في المنطقة وفي الدول القريبة، من أجل فهم طبيعة الحركة، وما يستحدث عندهم من نظرية في الانقلاب والتغلغل، وثانيهما: تمشيط المؤسسات الحكومية كلها، بخاصة التعليمية من أجل تحييد هذا الفكر الأممي من أي احتمال تأثيرٍ يمكن أن يحدثه.
قول السويدان عن الثورات ليس تراجعاً؛ ليس لدى الإسلاميين أي تراجعات، وإنما حيل حركية، والتاريخ يشهد على مثيل هذا الكلام لمن بحث ودقق.