بقلم : فهد سليمان الشقيران
يمثل التعثر في تنظيم تعليم الفلسفة وتضمينها ضمن سياسات التعليم حجر عثرة في ضرورة تطوير العقول. وآية ذلك أن الدول المبادرة لتعليمها تعرضت لانتقادات. وسبب الهجوم آيديولوجي بحت منطلق من إرث محدد لم يدم طويلاً، لن أتحدث عن المهاجمين للفلسفة التقليديين، وإنما أضرب مثال ابن خلدون في المقدمة، الذي هاجم الفلسفة والفلاسفة، هجوم يختلف عن موقف الغزالي الذي تصوّر أنه ابتلع الفلسفة ولم يستطع أن يتقيأها، وهذه مقولته الشهيرة، بينما يعتبر كثر من الدارسين أنه لم يفهمها بالمعنى الدنيوي، وإنما استعملها كموضوع سجالي كلامي، ثم هاجمها بعد شكوكه الوجودية في كتابه «المنقذ من الضلال»، وردّ ابن رشد المحكم عليه معروف ومدروس، وهذه معلومات مألوفة لدارسي الفلسفة بالثانويات.
حسناً فعلت مؤسسة «بيت الفلسفة بالفجيرة» حين أطلقت سلسلة من الكتب الفلسفية للأطفال، إضافة إلى تنظيم دورات متنوعة تثري معارفهم، وذلك إيماناً من «بيت الفلسفة» - كما في بيانها - بأن التثاقف ضرورة، وأن صرحه المعرفي حاضنة معرفية عالمية. وعمد «بيت الفلسفة» إلى إشراك فريقه في دورة لتعليم الفلسفة للأطفال. هدف المؤسسة «تنظيم ورشات للأطفال تستند إلى الكتب المترجمة، في محاولة لإشراك الطفل بصرياً وحركياً وتفاعلياً ويدوياً في كل ما يتضمنه الكتاب، لكي لا يقتصر الأمر على القراءة فحسب. انطلاقاً من الكتب المترجمة، ومن الاستراتيجيات المكتسبة من منهجية التعليم الفلسفي للأطفال». الأهم جملة: «منهجية الفلسفة» وليس تعليمها فحسب، ذلك أن الفلسفة هي عدة تفكير، وليست جمع معلومات. البعض يعترض على تعليم الفلسفة للكبار فما بالك بالتعليم الابتدائي، والسبب الرئيسي يعود لمقولة: «الفلسفة ضد الدين»، وهذا غلط محض.
استعدت قبل أيام قراءة كتاب الأستاذ القدير الراحل فالح عبد الجبار «الاستلاب»، وأظنّ أنه من أنفس ما كتَب في الفلسفة، دع عنك كتبه في علم الاجتماع وأقواها «العمامة والأفندي»، لكن كيف يقرأ فالح علاقة الدين بالفلسفة؟!
على سبيل المثال رأى أن «التضاد بين الفلسفة والأديان الأسطورية حقيقة واقعة، بل إن تطور الفلسفة جعل النظر الميتافيزيقي (هنا: الديني) جناحاً صغيراً من الفلسفة التي غطّت كل العلوم، الكوزمولوجيا (فيزياء الكون) الفيزياء (الطبيعة)، المجتمع (أخلاق، سياسة)، الميتافيزيقيا، المنطق، إلخ، وبذا يمكن القول إن الفلسفة القديمة احتوت الدين في جوفها كعنصر من عناصرها هي وأضفت عليه طابعاً معقلناً، مثال ذلك: تحديد أرسطو للذات الإلهية على أنها المحرّك الأول وصورة الصور، هجوم زينوفون (يترجم خطأ إلى إكسينوفون Xenophon) على تمثلات الدين الشعبي، اتهام سقراط بإدخال آلهة جديدة، وقوف أفلاطون ضد آلهة هوميروس وهزيود ودعوته إلى محو تواريخهما من باب التربية في جمهوريته. أخيراً، في العالم القديم تبدأ الحركة نحو الوحدة، إن اتحاد الفلسفة مع الدين لم يبدأ عملياً، إلا مع الرواقية والأفلاطونية الجديدة، ونذكر بهذا الخصوص إشارة فويرباخ إلى أن المسيحية هي نتاج اجتماع الفلسفة الإغريقية واليهودية».
ويعتدُّ موقف هيغل محطّماً لكلّ الأسس التي تستخف بالعقل البشري، بل إنه يضع اللاهوت تحت رحمة العقل: الفلسفة أعلى من الدين لأنها «فكر فاهم لهذا المضمون تمتاز عن التصور الديني بإدراكها الجانبين: لأنها تدرك الدين وتنصفه، وهي تفهم العقلانية وما فوق الطبيعة، وهي تدرك ذاتها بذاتها أخيراً»، وعليه «لا نظلم الفلسفة عندما تتهم بتعارضها مع الدين». الفلسفة تتضمن الدين، لكن «الدين لا يتضمن الفلسفة».
لكن ماذا عن موقف الفلسفة من الدين؟!
يجيب: «الفلسفة لا تمنح موافقتها إلّا للشيء الذي وعاه الفكر» مع هذا يدعو هيغل إلى السلام بين الاثنين. هناك عدة بدائل، البديل الأول هو الانفصال بسلام، وأن يأخذ كل طريقه. والبديل الثاني هو السلام بإلحاق العقل بالإيمان. هيغل يرفض ذلك ويستذكر إحراق الكنيسة الكاثوليكية للهراطقة فيعلن: «إن الفكر عندما يستيقظ لا يمكنه التخلي عن الحرية». البديل الوحيد للسلام هو، عند هيغل، خضوع الإيمان للعقل، لأن العقل لا يمكنه السماح بشيء آخر إلى جانبه أو فوقه»، في خاتمة هذا العرض يمكن تكرار بعض التوكيدات الأساسية: ثنوية هيغل الصوفية-العقلية، استلاب/اغتراب الروح عن ذاتها في الدين، تجاوز الاستلاب/الاغتراب في الفلسفة. وإن نزعة التصالح بين الدين والفلسفة هي ما دفعت الجيل اللاحق، جيل الهيغليين اليساريين، خصوصاً فويرباخ وماركس، إلى تمزيق جبّة اللاهوت الهيغلي إرباً إرباً.
الخلاصة؛ أن الفلسفة بالخطّ العريض ليست ضد الدين، نعم ثمة فلاسفة لديهم فلسفات كبرى مناهضة، ولكن الفلسفة هي فضاء للتحرّك نحو الدرس والتحليل، للاتجاه صوب السؤال ومنازلته ومحاولة الإجابة عنه، إن الاستخفاف بسياسات التعليم للفلسفة بالعالم العربي يعني الرغبة بالتراجع إلى الآيديولوجيا، بحيث تصبح المجتمعات عبارة عن «طقم واحد» بإجاباتٍ جاهزةٍ موزّعة من دون درس أساسها أو فحص جذرها. ثمة فرق كبير بين الفلسفة والنظرية الفلسفية، وهذا ما لا يدركه الجهلة الكسالى الذين لا يقرأون، وإن قرأوا لا يفهمون، الفلسفة عبارة عن فضاء وإتاحة لأن تتفلسف، ثم تأتي الأفكار والنظريات والمفاهيم هذه تعدُّ فلسفات، وهي لا تمثّل مفهوم الفلسفة بمعناها الكبير، الفلسفة إمكان، والفلسفات هي النظريات، لكن من يفهم؟!