بقلم - فهد سليمان الشقيران
عبر التاريخ ظلّ الاستعمال الفلسفي من قِبل العقائديين محلّ انتقاد، الإزعاج الذي سببتْه الفلسفة بما تطرحه من أسئلة وبما تمارسه من زحزحة بقي مستفزاً، استفزاز يثمر استنفاراً كبيراً وكأن الأسئلة هي السهام التي ترشق الأجوبة التقليدية وتضربها بمقتل أو تفقدها حيويتها وبريقها. وهذا لا يعني أن الفلسفة لم تنزع نحو الحماسة الشديدة لأجوبتها بشكلٍ يقترب من فعل العقائديين. يحدثنا ديفيد هيوم عن ذلك في كتابه «أبحاث أخلاقية - سياسية وأدبية»، قائلاً «بما أن الفلسفة كانت منتشرة في العالم في الوقت الذي نشأت فيه المسيحية، فإن معلمي المذهب الجديد كانوا مضطرين إلى أن يشكّلوا منظومة من الآراء الفكرية، وأن يقسّموا بشيء من الدقة بنود إيمانهم، وأن يشرحوا، يعلقوا، يفندوا ويدافعوا بكل براعة الحجة والعلم. من هنا نشأت الحدة في الصراع عندما وصل الأمر بالدين المسيحي إلى أن ينشق إلى أقسامٍ ومذاهب جديدة. هذه الحدة ساعدت الكهنة في سياستهم، أي توليد كراهية متبادلة وعداء بين أتباعهم الواهمين، ولقد كانت المذاهب الفلسفية في العالم القديم أكثر تحمساً من المذاهب الدينية، لكن في العصور الحديثة، المذاهب الدينية أكثر سخطاً وغضباً من أقسى الفرقاء الذين نشأوا دائماً من المصلحة والوضوح» - (ص:147).
وإذا تأملنا في أي تراث، سنعثر على الإلحاح الكلامي والمحاججة اللاهوتية ممهورة بالمنطق، أو بالاستعمال الفلسفي، لنقرأ سجالات ابن تيمية مع ابن رشد، وهذا درسناه في كليات الشريعة الإسلامية، ويمكن لغير المتخصص الاطلاع على كتاب مهم حوى أسس النقاش التيمي الرشدي لعبد العزيز العماري بعنوان «مناحي نقد ابن تيمية لابن رشد»، بمعنى أن توظيف الفلسفة لا يعني أنها حققت وظيفتها، فيمكن استعمال الفلسفة بصيغٍ شتى، بل واستثمارها لأهدافٍ عقائدية وآيديولوجية بحتة، كذلك فعل عدد كبير من المعاصرين، من أشهرهم طه عبد الرحمن من العرب، ومن الإيرانيين أحمد فرديد، الذي تناولتُه في ثلاث حلقاتٍ مضت، وأزيدها في هذه الكتابة. إن أحمد فرديد يمثل النموذج الواضح على توظيف الفلسفة بدلاً من فهم وظيفتها.
ولأن الاستشراق الألماني كانت له خصوصية استقبالٍ لدى المسلمين من شتى النواحي باعتباره متميزاً عن الاستشراق الفرنسي والإنجليزي؛ فقد كان لهذا أثره في تلقي بعض المدونات الفلسفية الألمانية، وحول الاستشراق الألماني وخاصّياته يمكن قراءة كتاب رضوان السيد «الاستشراق الألماني - النشوء والتأثير والمصادر»، وله محاضرة عن هذا الموضوع في «يوتيوب». من هذه النقطة انطلق رفائيل ليوجييه في تحليل اضطراب أحمد فرديد، يقول في كتابه «عولمة... لا حرب حضارات - التعايش والعنف في القرن العشرين»: «المؤلفون الألمان بداية القرن الأخير كان لهم تأثير كبير في الآيديولوجيا الإسلاموية في حالة تكوّن آنذاك، مفهوم (مرض الغرب) الذي نحته الآيديولوجي الإسلامي أحمد فرديد، الذي كان تكوينه في هايدلبرغ وفي السوربون، هو مدين للفكر المضاد للحداثة لرائده مارتن هايدغر، خصوصاً في سلسلة محاضراته 1949 التي يصف فيها هايدغر (تعتيم العالم/ الحماسة التكنولوجية الحزينة/ اقتلاع الجذور الحديث). البعد الماركسي الثوري هو حاضر سلفاً بما أنه لدى فرديد حقوق الإنسان ما هي إلا شراكٌ برجوازي ضد العاملين».
رفائيل ليوجييه يضيف «الإسلاموية المتطرفة تغذي كراهيتها للغرب ذات المصدر الآيديولوجي من المؤلفين الغربيين الأكثر تنوّعاً، مهما كانت اختلافاتهم الفلسفية والسياسية. أدنى انتقادات ماركس، هايدغر، يونغر، ستتم إعادة تشكيلها وفق قواعد اللغة الإسلامية. الياسينية حركة إسلامية ثورية مغربية، لها بالتأكيد خصوصيات تميزها عن الأصوليات الجديدة الإيرانية، السعودية، المصرية، غير أنّها مثل هذه الأخيرة تستعين بالأصوات الكبرى مثل برغسون، نيتشه، شبينغلر، أو حتى شيلر».
ذلك الاستعمال الآيديولوجي للأفكار الفلسفية ظهر في كتابات «مثقفي الإخوان»، ثمة امتطاء أصولي للأفكار الفلسفية له جذره وتاريخه، نتذكر كتاب محمد قطب «واقعنا المعاصر» (مطبوعات جريدة «المدينة») وقراءاته للفكر الغربي؛ إذ ينحى بمثل ما فعل فرديد نحو تفعيل النقد الذاتي الغربي للحداثة ومصائرها من أجل التشويه للحضارة الغربية، وهذا فعل مألوف يستمر اليوم ولكن بصيغٍ أكثر ذكاءً؛ إذ سرعان ما ينطلق المتفلسف الأصولي ببراعة ليصل نحو هدفه من دون أي عناءٍ فلسفي يوحي بالمغامرة أو التحدي أو القفز على القناعات المضمونة، نقرأه لدى المرزوقي، وطه عبد الرحمن، وفرديد، وتلامذتهم المتقافزين على المشاريع الثقافية والمؤسسات التحديثية يعملون بصمتٍ ويكتمون أصوليتهم إلا لماماً. إن العمل الفلسفي لدى العرب والمسلمين اليوم يطلعنا على نماذج يمكنها أن تترجم أصعب الأعمال لهوسرل، ولكنها لا تجد غضاضة أو مهانة حين تدافع عن «داعش».. هذا هو الحال بكل أسى.
اهتبلت ظاهرة «التفلسف الأصولي» العديد من الفرص من أجل ترسيخ نقدها للحضارة الغربية، ومن أولئك أحمد فرديد المتمسك بنقده للغرب انطلاقاً من عبارات النعي الهايدغرية؛ ولذلك نقرأه حانقاً على الغرب ومطلقاً عليه وصف «المرض».
هذه الدعايات الاستعمالية للفلسفة الغربية غرضها تثبيت النظرية القائمة، وفرّخت مدرسة فرديد شخصية أردكاني، الذي يصفه أمير طاهري بـ«فيلسوف إيران الرسمي»، ويكتب ويلخص مشروعه بهذه النقاط: «الأول، هو التدليل على أن النموذج الغربي ليس عيباً فحسب، بل يشكل خطورة أيضاً على البشرية. والمجتمعات التي لم تسيطر عليها المادية الغربية بشكل كامل تمتلك فرصة النجاة بنفسها من القطار المتجه (إلى الجحيم)». ويصر أردكاني، تلميذ الفيلسوف الراحل أحمد فرديد، على أن تكون المعركة الأولى ضد المثقفين الإيرانيين الداعين إلى العلمانية عبر استخدام مصطلح «التسمم بالأفكار الغربية». الخط الثاني هو إظهار أن البديل للنموذج الغربي لا يمكن أن يأتي من داخله، وهو أمر أثبته فشل الشيوعية. أضف إلى ذلك عدم قدرة الحضارات اليابانية والصينية على تقديم بديل؛ لأنها قطعت شوطاً طويلاً على طريق التغريب، نتيجة تبنيها أنظمة سياسية علمانية واقتصادات رأسمالية. والبديل الوحيد ذو المصداقية هو الإسلام كدين ونموذج حضارة. الخط الثالث الذي عمل عليه أردكاني هو إظهار أن من بين كل الدول الإسلامية تمتلك إيران وحدها الموارد الثقافية اللازمة لتقديم بديل عالمي للنموذج الغربي. الخط الرابع هو إظهار أن قوة النموذج الإسلامي الإيراني مستمدة من نظام ولاية الفقيه. وفي هذا السياق، قام دوري، وهو مثقف إيراني، بجهد كبير في تقديم ولاية الفقيه، لا كبدعة ابتكرها آية الله الخميني، بل كفكرة إسلامية جوهرية. (مقالة أمير طاهري نشرت بهذه الجريدة في 10 أغسطس/ آب 2013 بعنوان «أردكاني فيلسوف إيران الرسمي، ورجل الدين المعتزل)، (وقد كتبت تعليقاً عليها مقالة بجريدة «الحياة» 19 أغسطس 2013 بعنوان «آيديولوجيا أردكاني وعلمنة شايغان»).
عبر تلك النماذج قرأنا كيف استعملت الفلسفة بطريقة عقائدية آيديولوجية، بل ومذهبية لدى عددٍ من المفكرين المسلمين، ولأن ظاهرة «التفلسف الأصولي» بدأت تدبّ دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء كان لزاماً علينا رصد هذا التحرك وكشفه، والغرض من ذلك ليس الدفاع أو الهجوم؛ فالفلسفة وظّفت بنظرياتٍ شمولية لا تقل عن كارثية الأصولية ولكن نتغيّا من ذلك الكشف والمساجلة، بل القول لأولئك نعرف أن هدفكم ليس الفلسفة أو التنمية أو دعم التحديث، وإنما إحياء ظاهرة «التفلسف الأصولي» لأغراضٍ إما آيديولوجية، أو للتكسب الشخصي والاستثمار بموجة التحديث الكبرى.