النزعة المحافظة وسياسات نقد الليبرالية

النزعة المحافظة وسياسات نقد الليبرالية

النزعة المحافظة وسياسات نقد الليبرالية

 العرب اليوم -

النزعة المحافظة وسياسات نقد الليبرالية

بقلم : فهد سليمان الشقيران

 

كل تناولٍ لمجالٍ من دون إدراك أسسه، وفلسفته يعد عملاً فكرياً ناقصاً، ما يمتّن ويجوّد الدرس والقول/النظرية يكمن في التوجه نحو أصل المجال وفلسفته وتاريخه وظروف تكوّنه، ومن ذلك التناول السياسي، فالفلسفة السياسية أساسية لفهم الحدث وأثره وتشظّيه.

من الصعب فهم الإجراءات السياسية من دون ردّها إلى جذرها. بل يعد الفيلسوف هارفي ك. مانسفيلد الفلسفة السياسية أكثر مجالات الفلسفة حسماً ولكن هذا لا يعني أنها المجال الأعظم في الفلسفة، فمهمة الفلسفة السياسية تتعلق بمعرفة الذات، حيث لا يمكنك التفكير بشكلٍ كامل من دون التفكير في ظروف التفكير، ويعد مهمة الفلسفة السياسية أن تربط بين الفلاسفة وغير الفلاسفة، بين ما هو معقول في الفكر، وما هو غير معقول، أو ما هو مميز أو سامٍ في الإنسان، وبشكلٍ عام أكثر بين ما هو مشترك لدى الأدنى من الإنسان، بهذا المدخل يجيب عن أسئلة مجلة «هارفارد» من أجل توضيح وجهة نظره حول نزعته السياسية المحافظة، راداً انتماءه إليها إلى تحليل فلسفي منظّم. (الحوار طبع ضمن كتاب: «حوارات فلسفية» عناية: جميلة حنيفي).

عادةً ما يتم تداول النزعة المحافظة باعتبارها حليفة التقليد، وبأن الليبرالي المحافظ ذو نزعة ارتكاسية ماضوية، لكنه يتناول هذه الدعاوى بكثيرٍ من التفصيل، صحيح أنه لا يرفض وصف «المحافظ» conservative لكنه غير راضٍ عنه. وتسبيبه أن هذا التصنيف ذو بعد سياسي، إذ يمكنه وهو محافظ أن يكون ليبرالياً، ولكن يقرّ بأنه سيواجه هنا معضلتين:

الأولى: أن المرء إذا كان محافظاً فهذا يعني أنه متمسكٌ بالتقاليد، وعادةً ما يحتوي التقليد على عناصر متناقضة. ما يستوجب على المرء أن يكون انتقائياً وليس مجرد محافظ.

والثانية: تتعلق بمسألة التكتيك، هل يجب على المرء أن يسير ببطء أو يعود أدراجه؟ السير ببطء يعني الحفاظ على ما تم إنجازه وإبطاءه عند المستوى قيد الإنجاز، ما يعني الحفاظ على وشيجة بين الماضي والحاضر، فالعودة إلى الوراء تعني «إحداث قطيعة» في تلك الوشيجة، وبالتالي عدم الحفاظ عليها. يضرب المثال برونالد ريغان الذي يناصر التمسك بالماضي، بينما جورج بوش اختار السير بتأنٍّ، ثم يطرح مفارقة خلاصتها: «أن المحافظين معتادون على تبجيل المؤسسين، وهذا صائبٌ تماماً، لكن التأسيس فعلٌ غير محافظ، من المستحيل أن تكون محافظاً بشكلٍ دائم ومعقول».

لا يعد هارفي ك. مانسفيلد الفلسفة الشتراوسية محافظة بالضرورة، لأن ليو شتراوس نفسه قال إن رائحة السياسة المحافظة لدى أولئك الذين يتبعونني في التفكير، ومع أن معظم الشتراوسيين محافظون فإن فيهم بعض الليبراليين، تتعلق بالمهمة بإحياء الفلسفة السياسية وليس بتغيير أميركا، نعم كون المرء شتراوسياً قد يجعله محافظاً ولكن ليس بالضرورة.

يثير الانتباه تأكيد مانسفيلد على أن الفلسفة السياسية تتيح جواً من التفكير السياسي، وليس مجموعةً من المبادئ يستخلص منها المرء السياسات بسهولة؛ إن السياسات نوعية جداً بالنسبة إلى الموقف. ينتقد الديمقراطية ويدعو للاحتمالات البديلة، لكن حتى ظهور البديل لا مناص منها. لا يعدها أفضل تنظيم سياسي على الإطلاق، ولكن على المرء أن يحتفظ في ذهنه الخاص بالولاء لأفضل نظام. ويختلف مع حتمية فرنسيس فوكوياما الهيغلية التي استعارها من كوجيف حول التطوّر المجتمعي المتحرّك بلا هوادة، لأن حتمية فوكوياما منقوضة بالاتجاهات التي حدثت بالفعل وبالإمكانات الموجودة حالياً. لا بديل عملي عن الديمقراطية، حتى الأصولية الإسلامية ليست بديلاً عملياً لأنها تفقد إيمانها بسرعة كبيرة، ولأنها تعتمد على العلوم والاقتصاديات الغربية فهذه التبعية تؤثر عليها بالضرورة.

أوضح تيارين ناصبا الديمقراطية بالعداء هما التيار الشيوعي وتسبيبهم أن الديمقراطية الليبرالية «أنانية للغاية وغير مكترثة بجميع الناس»، بينما الفاشية تعيب على الديمقراطية الليبرالية أنها لا تحقق تمام الطبيعة البشرية ولا كمالها، لكنها من الناحية العملية قد يتحوّل الأفضل إلى أسوأ، كما حدث مع الشيوعية والفاشية، ولكن يضيف مانسفيلد: «الناس كثيراً ما تغريهم المحاولة».

في عام 1978 طرح مانسفيلد كتابه «روح الليبرالية»، يعد مهمة كتابه تقديم نفسه كصديقٍ لليبرالية، ولكن من النوع الذي يخضعها ومناصريها للنقد مما جعلهم ينفرون منه وينقضّون عليه. هذا الكتاب هو نقطة انطلاق مانسفيلد نحو «النزعة المحافظة الصريحة» لكن ما مهمته الفلسفية كفيلسوف ليبرالي محافظ؟!

يجيب: «أعتقد أن على المرء أن يحدد المهمة الرئيسية للنزعة المحافظة اليوم، في أنها تكمن في محاولة جعل الليبرالية تلتزم بمبادئها الخاصة، وذلك في نواحٍ عدة، في علم الاقتصاد تلتزم بالسوق والملكية الخاصة، في الثقافة تلتزم بالمعايير العليا للجامعات، في القانون الدستوري تلتزم بحقوق الدستور وبالمؤسسات التي أنشأها». وينبّه مانسفيلد بأن سبب فقدان الليبرالية لجاذبيتها أن أتباعها انصرفوا عن الأشياء التي كانت جذّابة فيها، حدث هذا منذ أواخر الستينات، الحقبة التي يصفها بمسببة الأذى الكبير.

مانسفيلد سينتقد زميله في جامعة هارفارد الفيلسوف جون راولز؛ الذي كتب عنه مقالاً ونشره في كتابه آنف الذكر، يعده ممن حاول جعل ليبراليته تتلاءم مع كلا الاتجاهين، إذ يفضّل إيمانويل كانط على جون لوك، لأن كانط لديه سمو أخلاقي معيّن، ولا يؤسس حجته على الحفاظ على الملكية، وينتقد راولز بأنه لا يعلق على التدابير السياسية والأخلاقية التي اقترحها كانط في كتابه «ميتافيزيقا الأخلاق»، لذا فهو يعود أدراجه صوب جون لوك ليخلّص نفسه من صرامة كانط الأخلاقية، ويضيف: «أعتقد أنه استبدال غير متناسق بين الرغبة في أن يكون المرء أخلاقياً، والرغبة بأن يكون رحيماً»، صحيح أن راولز دعا إلى مستوى من إعادة التوزيع؛ حيث لا يولي الاستحقاق اعتباره الكافي، غير أن هذا يعد مستوى من الأخلاقية وفي ذلك تطلع إلى الحفاظ على الجماعة، أو الحفاظ الذاتي على الجماعة؛ ما يسميه راولز: «النظرية المخففة للخير»، ويعلق على هذا الوصف مانسفيلد: «يا له من توصيف رهيب للكانطية».

راولز على النقيض من مانسفيلد يحذّر من صرامة المبادئ: «من الخطأ أن نطبّق مبادئنا الخاصة في كل وقت؛ نحن في حاجةٍ إلى فحص الأشياء بمعزلٍ عنها، وإلا فإننا نخاطر بأن نصبح آيديولوجيين».

الخلاصة؛ أن مسألة النزعة المحافظة لم يطرحها مانسفيلد كنقيضٍ لليبرالية، ولا بوصفها حليفة التقليد ورهينة الماضي؛ بل المحافظة يمكنها أن تؤسس لانتقادات حيويّة ربما تسهم في إعادة الليبرالية لجاذبيتها الأصليّة، كما يمكن للمحافظة أن تسرّع من تجاوز الديمقراطية نحو ما يسميه «الاحتمالات البديلة»، مع أن الفلسفة السياسية لم تنجح في ابتكار البديل، لكن النزعة المحافظة يمكنها أن تكون مصلاً مقاوماً لنمط الليبرالية، أو تجربة النظم الديمقراطية.

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

النزعة المحافظة وسياسات نقد الليبرالية النزعة المحافظة وسياسات نقد الليبرالية



إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:02 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتجديد المنزل في فصل الشتاء
 العرب اليوم - أفكار لتجديد المنزل في فصل الشتاء

GMT 02:02 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

أردوغان يؤكد أن الأمم المتحدة عاجزة عن حل الصراعات في العالم
 العرب اليوم - أردوغان يؤكد أن الأمم المتحدة عاجزة عن حل الصراعات في العالم

GMT 11:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يستهدف تجمعات إسرائيلية وإطلاق 30 مقذوفاً من لبنان
 العرب اليوم - حزب الله يستهدف تجمعات إسرائيلية وإطلاق 30 مقذوفاً من لبنان

GMT 10:04 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا توضح أسباب غيابها عن رمضان للعام الثالث
 العرب اليوم - شيرين رضا توضح أسباب غيابها عن رمضان للعام الثالث

GMT 06:28 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29
 العرب اليوم - غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29

GMT 05:45 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

علاج جيني مُبتكر يعيد السمع والرؤية لمرضى متلازمة آشر 1F

GMT 12:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

قمة الرياض: أمن الإقليم مرتكزه حل الدولتين

GMT 02:18 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

قرن البولندي العظيم (الجزء 1)

GMT 12:03 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

روجينا تكشف عن تفاصيل مسلسلها الجديد رمضان 2025

GMT 09:36 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزال بقوة 5.1 درجات يضرب جزر ماريانا غرب المحيط الهادئ

GMT 22:02 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتجديد المنزل في فصل الشتاء

GMT 07:54 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

حميد الشاعري يكشف تفاصيل بيع بصمته الصوتية

GMT 13:50 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

أبرز موديلات ساعات اليد لإطلالة مميزة وراقية

GMT 02:04 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

الرفاق حائرون... خصوم ترمب العرب

GMT 11:54 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

GMT 13:54 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ساعات اليد الرجالي وطرق تنسيقها مع الملابس

GMT 02:14 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

الوفاء غائب ولغة التخوين والحقد حاضرة

GMT 07:41 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مجلس الأمن يصوت على مشروع قرار يدعو إلى وقف النار في السودان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab