بقلم : فهد سليمان الشقيران
التحوّل الرسمي والشعبي والدستوري الذي تعيشه تونس يمثل الحدث الأبرز على الأصولية اليوم... منذ سقوط نظام الإخوان بمصر؛ حاولت حركة النهضة أن تسوّق للمشروع الإخواني، وراهنت على إمكانية التعويم، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً جداً، واتهمت بالتورط في تأسيس خلايا إرهابية، وغسل الأموال، وبالفساد. الحركة بقيت طوال السنوات الماضية تمارس عملية «التطمين» للمجتمع التونسي، وكانت خائفةً من تكرار النموذج المصري بتونس، كان الحل بالنسبة لمؤسس «النهضة» وزعيمها راشد الغنوشي يكمن في أمرين، أولهما تنقية الأجواء مع المفاهيم التي يخاف عليها التونسيون، وعلى رأسها مفهوم «العلمنة». وثانيهما ترويج الصلاح لحركة النهضة، مقابل فساد الأحزاب المدنية الأخرى، لم ينجح في كلتا المهمتين.
في أبريل (نيسان) 2022، قدم الغنوشي ورقةً بعنوان: «العلمانية وعلاقة الدين بالدولة من منظور حركة النهضة»، وقد لخّص مضمونها فيصل بابكر بموقع قناة «الحرة». يقول الغنوشي عن العلمانية: «ليس من مهمة الدين تعليمنا أساليب الزراعة، وأساليب الصناعة، وحتى أساليب الحكم، وكيف ندير الدولة، لأن كل هذه تقنيات، والعقل مؤهل فيها إلى أن يصل إلى الحقيقة من خلال تراكم التجارب. مهمة الدين أن يجيبَنا عن القضايا الكبرى التي تتعلّق بوجودنا، أصلنا، ومصيرنا والغاية التي خُلقنا لأجلها، وأن يعطينا نظام القيم والمبادئ التي يمكن أن تمثل توجيهات لتفكيرنا وسلوكنا ولأنظمة الدولة التي نسعى إليها. إنَّ السبيل للوصول إلى معادلة تضمن فيها حريات الناس وحقوقهم وهي المقاصد التي جاء من أجلها الدين هو الرجوع إلى موضوع التمييز بين الدين والسياسة، ونحتاج إلى ضبط ما هي ثوابت الدين وما متغيراته».
الغنوشي - بحسب تقرير عن محاضرته هذه - لم يفصل بين الدين والدولة، بل ميّز بين السياسة والدعوة، وهي الخطّة التي اعتمدها في التصريحات للصحافة الدولية، يكمل بأن: «الدين مداره الأساسي ليس أدوات الدولة، وإنما القناعات الشخصية، أما الدولة فمهمتها تقديم الخدمة للناس قبل كل شيء كمواطن الشغل والصحة الجيدة والمدرسة الجيدة، أما قلوبهم وتدينهم فأمرهما لله». في المحاضرة هذه دافع الغنوشي عن الحريات والديمقراطية وغيرها من المفاهيم السياسية. الغنوشي هنا يستعمل أخطر خطاب إخواني مخاتل عرفناه منذ تأسيس الجماعة، حاول بخطابه الاقتراب من «الهوية التونسية» من أجل تنفيذ مشروعه السياسي، وإلا فإن حركة النهضة بنهاية المطاف حركة أصولية، ولكن لدى «الإخوان» مرونة في إخفاء الأفكار الكبرى الأساسية، والنزول مع المخالف إلى آخر رمق، وهكذا فعل الغنوشي.
خطاب الغنوشي لم يخدع فقط بعض الكتاب والمفكرين العرب، بل خدع محللين وباحثين، منهم الباحثة البريطانية إليسون بارغتير، التي ألفت كتاباً انتقده في عددٍ من المقالات وعنوان كتابها: «الإخوان المسلمون وحركة النهضة... الانكفاء إلى الظلّ»، تقول في الكتاب حول مفهوم العلمانية لدى حركة النهضة: «حزمت (النهضة) أمرها بوضوح في أن العلمانية - رغم نفورها من هذا المصطلح - هي الطريق الوحيدة للنجاة سياسياً. الحق أن (النهضة) باشرت كما يظهر في عملية إعادة اختراع نفسها، والغنوشي باشر في الترويج لفكرة أن الحركة حزب ديمقراطي مسلم. وما من شك في أن هذه التحركات ستلقى في الأغلب الأعم استحساناً مُتَوَاصلاً في الساحة الدولية، لكن ليس واضحاً بعد ما سيكون عليه صدى ذلك في قواعد الحركة. هذه القواعد هي ما يمنح (النهضة) قوتها وتميزها عن الأحزاب السياسية الأخرى العاملة في الساحة، التي عجزت عن الوصول إلى ما هو أبعد من نخبة ضيقة. وعلى حين ستبقى (النهضة) قوة كبيرة داخل تونس، فإن التحدي المحوري الذي يجابهها هو ببساطة الحفاظ على تماسكها. وسيكون هذا التحدي ملحّاً جدّاً عندما يخلو المشهد السياسي من الغنوشي، الذي كان على الدوام القوة المحركة للحركة وترياق لُحمتها. كما تبنَّت (النهضة)، في الوقت نفسه، مقاربة أكثر حدةً إزاء التطرف، ومن ذلك إدانتها (داعش). وهذا إلى حدٍّ ما مثّل رحيلاً عن معسكر الإسلاميين. هذا لا يعني أن (النهضة) أو جماعة الإخوان لم تنتقدا التشدد من قبل؛ فلطالما أدانتا الإرهاب، وسعتا إلى النأي بنفسيهما عنه.
من ناحية أخرى: إن اعتبرت جماعة (الإخوان) في مصر منظمة إرهابية، فإنَّه لا دليل مباشراً على أن الجماعة قد اشتركت بصورة مباشرة أو غير مباشرة في أي هجمات إرهابية حدثت في مصر بعد سقوط مرسي. فتقليدياً اتخذت الجماعة بصورة عامة موقفاً يتمثل في أن أفضل طريقة للتعامل مع المتشددين الإسلاميين، هي بفهم أنَّهم شبان متحمسون حملهم الدين بعيداً، وبالوسع إعادتهم إلى الصراط المستقيم إذا ما بينت لهم الطريقة (الصحيحة) لتفسير الإسلام».
الواقع أن مقاربة الغنوشي للهروب من «فصل الدين عن الدولة» إلى «تمييز الدعوة عن السياسة» أربكت كثيراً من المحللين غير المنخرطين بشكلٍ جدي في البحث بالحركات الأصولية، ومن أولئك هذه المؤلفة التي طرحت تحليلاتٍ غاية في الهشاشة والضعف، والمشكلة أنها طرحت قطعيات غير صحيحة لا يقولها صحافي مبتدئ، فحركة الإخوان بمصر قامت بأعمال عنف، وبالنسبة لحركة النهضة بتونس فتتهمها النيابة بالقيام بعمليات قتل، والتخطيط لمزيد منها ضد نواب ووزراء وصحافيين ضمن «التنظيم السري» الذي أنشأته الحركة.
يقول الغنوشي في حوارٍ معه: «نحن نرى أن العلاقة بين الديمقراطية والعلمانية، مثلاً، ليست علاقة ضرورية، كما يروج بعض الناس. فيمكن لك أن تكون علمانياً وإرهابياً أو ديكتاتورياً. ويمكن لك أن تكون علمانياً ديمقراطياً. ويمكن لك أن تكون إسلامياً، أو مسلماً ظالماً، أو إرهابياً أو محارباً. ويمكن لك أن تكون مسلماً ديمقراطياً. إرادة الوصل الضروري والحتمي بين العلمانية، بين الحداثة والديمقراطية هي ربط متعسف. وبالتالي نحن نؤكد باستمرار أن الإسلام والديمقراطية يتواءمان، وأن الديمقراطية هي الممارسة الحديثة للشورى». هنا لم يتطرّق لاتساع الإسلام للعلمانية، كما نقلت بعض الصحف عنه، إما عن قصد أو عن غير قصد.
كل الذي قيل عن جنوح حركة النهضة نحو التقارب مع مفهوم العلمنة، هو وقوع في فخّ الخطاب المخاتل الذي بدأه الغنوشي منذ زمنٍ بعيد، بل إن عدداً من الفلاسفة العرب خدعهم بكتابه عن: «الحريات العامة في الدولة الإسلامية»، ولكن حين وصلوا إلى الحكم كشّرت الجماعة عن أنيابها، ومارست، وفقاً لملفات التهم الموجهة ضدها أمام القضاء، صنوف الإرهاب والفساد وخالفت دستور البلاد.