بقلم - فهد سليمان الشقيران
حاججتُ من قبل حول العلاقة بين العدمية والإرهاب، وأنها تسمية صحافية أكثر منها بحثية أو علمية وفلسفية، ذلك أن العدمية بمفهومها لا يمكنها التطابق مع العمل الإرهابي، فالإرهابي يؤمن بجدوى الوجود باعتباره الطريق الوحيد الموصل إلى الجنة، فالوجود هو المسرح الفعلي لتنفيذ العملية الاستشهادية من أجل تحقيق الكرامات الأخروية، حسب فهمه للنصوص. فالعدمية جزء من تاريخ البشرية المحموم نحو أفقٍ آخر، يكتب الفيلسوف بودريار، في فصلٍ من كتابه «المصطنع والاصطناع»؛ عنون الفصل بـ «حول العدمية»: «ليست العدمية مظلمة وفاغنرية، نسبة إلى فاغنر، وشبنغلرية نسبة إلى شبنغلر، وقاتمة، كما في نهاية القرن، وهي لم تنشأ عن الرؤية الكونية للانحطاط، ولا عن جذرية ميتافيزيقية... العدمية اليوم هي عدمية الشفافية، وهي بمعنى ما أكثر جذرية وأكثر أهمية من كل أشكالها السابقة والتاريخية، لأن هذه الشفافية هي شفافية النظام بالذات»، ولم يسلم بودريار من تبني وصف «العدمية» للإرهاب، وسأبين هنا أنها تسمية ذات دوافع سياسية.
يريد بودريار أن يؤكد نظريته في الاصطناع، حيث انتقلت العدمية من استيهامٍ فعال وعنيف، من أسطورة ومسرح كما كانت تاريخياً إلى مجرى الأشياء الشفاف كما يقول، الشفاف زوراً، فبالنسبة إليه فنحن: «نعيش في وضعٍ جديد بالنسبة إلى الأشكال السابقة من العدمية، وهو وضع عصي على الحل بالتأكيد.. الرومانسية أول ظهور كبير للعدمية، وهي تطابق ثورة الأنوار، وتدمير نظام ظاهر الأشياء».
لكن هل يعتبر بودريار الإرهاب من ضمن تلك المعاني العدمية؟! أم يلحقه بالعدمية السياسية؟!
يشرح بودريار، العدمية السياسية من أبرز تجليات الظهور الثاني الكبير للعدمية، ويضرب بمثالين؛ أولهما: شكل العدمية الداندية (Dandyms)، وتجليها في المبالغة بالأناقة الشخصية العامة، ثم يضرب على الشكل الثاني مثال «الإرهاب» لكنه يستدرك أن المقصود به «شكله السياسي، التاريخي، الميتافزيقي». لكن هل اقتنع بودريار بأهمية ربط هذين المثالين بالعدمية؟! يوضح أن هذين المثالين لا يعنيانه كثيراً في موضوع العدمية الحديث الذي يربطه بالشفافية ومسرحة الواقع عبر الميديا، ومن جهة أخرى فإن بودريار لا يتناول الإرهاب في جميع كتاباته بوصفه «عمل العنف»، وإنما باعتباره «الحادث الذي لم يقع». ولمفهوم بودريار للإرهاب بحث آخر مستقل سيبين سبب إلحاقه للإرهاب بالعدمية السياسية، لأنه ينطلق من رؤية يسارية بحتة للعمل الإرهابي، فله قراءات صادمة وقوية حول الإرهاب وأحداث 11 سبتمبر (أيلول)، فهو يقرأها كقراءته لحرب الخليج التي لم تقع، كما هو عنوان كتابه الشهير.
ثم يحلل علاقة العدمية بالخمول، فيقول: «انجرفت الجماهير أيضاً في هذه الصيرورة الهائلة للخمول، بفعل التسارع... إن درجة الخمول هذه هي المبهرة اليوم والأخاذة مع ما يجري حولها (وبالتالي لقد انتهت روعة الديالكتيك المتروية) وإذا كانت العدمية هي تفضيل درجة الخمول هذه، وتحليل كون الأنظمة باتت عصية على العودة إلى الوراء، وبلغت نقطة اللاعودة، فأنا عدمي، إذا كان الخيار مطروحاً بين العدمية والوقوع في وسواس نمط الزوال لا نمط الإنتاج، فأنا عدمي».
ثم يضرب العدمية بالأنظمة في تحليله التالي: «إن كآبة الأنظمة هذه هي التي تسيطر اليوم من بين الأشكال الشفافة الساخرة التي تحيط بنا. وهي التي أصبحت شغفنا الأساسي. وهي ليست كآبة عميقة أو فراغ الروح في نهاية القرن. وهي ليست أبداً العدمية التي تستهدف بمعنى ما، تطبيع كل شيء بالتدمير، بشهوة الحقد. لا، فالكآبة هي النغمة الأساسية لأنظمة وظيفية، لأنظمة الاصطناع الراهنة، أنظمة البرمجة والمعلوماتية. الكآبة هي سمة ملازمة لنمط زوال المعنى، لنمط تبخر المعنى في الأنظمة الرقمية. ونحن جميعاً في حال الكآبة».
يصعد بودريار - هنا سبب آخر لتسمية الإرهاب ضمن العدمية السياسية - حين يقول: «إذا كانت العدمية تعني أن نوجه، لأنظمة الهيمنة البالغة درجة غير محتملة، سهم السخرية والعنف الراديكالي، هذا التحدي المطلوب من النظام أن يستجيب له بموته بالذات، في هذه الحال أنا إرهابي وعدمي على المستوى النظري، تماماً كما هم إرهابيو السلاح، فالعنف الرمزي، لا الحقيقة هو الوسيلة الوحيدة المتبقية لنا». يستدرك كما لو أنه أفاق من غضبة: «ولكن هذا مجرد طوبى، لأنه جميل أن يكون المرء عدمياً، لو أنه لا تزال هناك راديكالية، كما أنه جميل أن يكون المرء إرهابياً لو أنه لا يزال للموت من معنى، بما فيه موت الإرهابي». (فصل العدمية في الصفحات من 237 - 244).
لنتجاوز تحليل بودريار السياسي للعدمية، ولنتوجه لأهم فيلسوف نسب إليه هذا المفهوم «العدمية»، إنه نيتشه، وقد وضع بعض اللمعات جان جاك فورطي في بحثٍ له بعنوان: «الهيلينية واليهودية والإسلام: أصول في طور التفكيك» نشر ضمن كتاب: «لقاء الرباط مع جاك دريدا، لغات وتفكيكات في الثقافة العربية»، يشرح مفهوم العدمية عند نيتشه باختصار وتصرف: «فالعدمية مفهوم أساسي ومركزي في فلسفة نيتشه، لكنه ذو مستويات وتأويلات عديدة، والتأويل الأكثر كلاسيكية يرى العدمية باعتبارها الحقبة التي افتتحت بإعلان الموات، وانهيار القيم، وحركة الانحطاط عبر التاريخ. ويرى نيتشه أن المسؤول الأساسي عن انتشار العدمية هو سلطة الكهنة اليهود، ثم المسيحيين، الذي أفضى إلى سلب القيمة عن القيم الأرضية والمحسوسة، قيم الحياة، لصالح الغيبي، وذلك الموات والانهيار في القيم لم يؤديا إلى تحرير للوجود، بل على العكس من ذلك إلى غرق عام في الـ(لا جدوى) التي هي المنطوق الحديث للخطاب العدمي؛ ويرتبط الموتيف اليهودي بالعدمية وبالحداثة أساساً من حيث إن هذا الموتيف يتيح التفكير في ثيماتية التيه وغياب الخاص بوصفها مرتبطة بتاريخ اليهود وأوضاعهم». (ص: 96 هامش رقم 25).
فرق بين تحليل بودريار، (يوصف بودريار بصاحب الأفكار القوية لكن بحجج أضعف منها) وبين مفهوم نيتشه للعدمية. يتضح الفرق بين تحليل الأول السياسي، وتحليل الثاني الفلسفي، الذي يضع العدمية ضمن معناها المشتبك بالبحث الأنطولجي، وبين هذين المفهومين، فإن «العدمية» لا يمكن استعماله سياسياً إلا على سبيل التصعيد، كما قرأنا بودريار، وأنتصر مجدداً لفكرة نزع سمة العدمية عن الإرهابي، لأن ما يحمله من آيديولوجيا وأفكار ونزعات لا يمكن أن توصف بأي شكلٍ من الأشكال بالعدمية. إن الإرهابي لديه مشروعه المتكامل في استثمار الوجود بغية إتمام رحلته، وهذا يعارض حتى المفهوم البسيط للعدمية.