من السهل إطلاق وصف «الأزمة» بالمعنى الصحافي واللحظي على الذي يجري الآن.
لكن القصّة أن الحدث بقدر ما يتطوّر ليتحوّل إلى موضوع اعتياد إعلامي وأممي، كما حدث مع بدء موجات العنف الديني من قبل في أوروبا، أو مع بدء تصدير الإرهاب عبر المكائن الفضائية في بدئها منذ الثلث الأخير من القرن العشرين، لكن الحدث بمفهومه الأشمل جزء كبير منه ذو مشكل فلسفي.
أثناء حرب الخليج كتب الفيلسوف اليساري العتيد بودريار نصه الشهير: «حرب الخليج لم تقع»، وتم بعث هذا النص من قبل متحمسين كثر اليوم، منهم من كتب عن بودريار قبل أيام: «حرب الخليج لم تقع، ولكن طوفان الأقصى وقع بالفعل»، رغم أن المقالة كلها تنضح بالفهم المغلوط لمقصود بودريار من الكتاب والعنوان.
بعد موجات العنف الديني، كتب هوبزباوم عن الإرهاب ويصفه بـ«الظاهرة»، وبعد ذروته في أحداث 11 سبتمبر (أيلول) كتب عن «الحدَث» جاك دريدا الذي سُئِل عن سرّ اهتمامه بالحدث، فأجاب: «كل شيء موجود في الحاضر؛ يتم الإعلان عن الماضي والمستقبل بطرق دائماً ما تكون من الحاضر... الحاضر. هذا هو الدليل الذي حاولت تعقيده قليلاً. ظلَّت مسألة الزمن هذه تعمل طوال عملي. ومع ذلك، ما تقوله عن الاهتمام الخاص بالحدث صحيح».
وبالمناسبة، قبل كل ذلك، وفي عام 1981، ألَّف إدوارد سعيد كتابه «تغطية الإسلام». المفارقة أنه انتشر بين العرب والمسلمين بعد أحداث 11 سبتمبر، لأنه يعارض الحجة الغربية في فهم الإسلام.
أما إدغار موران، فقد كتب عن الحدث السياسي، كما كتبت في سلسلة المقالات الماضية، لكنه ذهب أبعد من ذلك، حيث حاول القبض على مفهوم «الأزمة»، وعلاقتها بالاضطراب.
فكرة الاضطراب لديه هي الفكرة الأولى التي تُظهِر مفهوم الأزمة، وهي في الواقع ذات وجهين. يقول: «يمكن للحدث، أو للحادث، أي للاضطراب الخارجي، أن يتسبب في أزمة. بهذا المعنى، يمكن أن تكون مصادر الأزمة مختلفة: موسم سيّئ، اجتياح تليه هزيمة... إلخ. ولكن الاضطرابات الأكثر إثارة ليست تلك الناجمة عن أزمات، إنّما المتأتيّة من عمليّة تبدو في الظاهر غير مشوّشة. وغالباً ما تظهر هذه العمليّات على صورة نموّ كبير جدّاً أو سريع لقيمة أو لشيء متغيّر: النموّ (المُفرط) لمجموعة سكانيّة بالنسبة إلى الموارد الموجودة في محيط مُعيّن (غالباً، في علم البيئة الحيوانيّة، يثير تخطي عتبة معيّنة من الكثافة الديموغرافيّة اضطرابات أزميّة في السلوكات، قبل شحّ الموارد)، أو كما يُقال في الاقتصاد الكلاسيكي: النموّ المفرط للعرض مقابل الطلب».
ولهذه التفسير الدقيق محاذيره لكن لماذا؟!
يرى أننا «عندما نتناول هذا النوع من العمليّات بمعايير نُظميّة، نرى أنّ الازدياد الكمّي يخلق عبئاً؛ إذ يصبح النظام عاجزاً عن حلّ المشكلات التي كان بإمكانه حلّها تحت عتبة معيّنة. ويجب عليه أن يتحوّل، لكنّه عاجز عن ذلك، أو أنّ الأزمة تُولَد من وضعية مأزق مزدوج، ما يعني أنّ النظام عالق بشكل مزدوج، إذ يكون عالقاً بين متطلبات متناقضة، وهو مشلول، ومضطرب ومختلّ. بصفة أعمّ، يمكن النّظر إلى الاضطراب المرتبط بالأزمة كنتيجة لأعباء أو قيد مزدوج؛ إذ يجابه النظام مشكلة لا يقدر على حلّها وفقاً لقواعد ولمعايير عمله ووجوده الحالي. ومن هنا، تظهر الأزمة على أنّها غياب للحلّ (ظواهر اختلال وفوضى)، ويمكنها في النتيجة أن تستثير حلّاً (ضبط جديد، تحوّل تطوّري). إذن، من الواضح أنّ ما هو مهمّ لمفهوم الأزمة ليس الاضطراب الخارجي الذي يُطلق في بعض الحالات مسار أزمة، بقدر ما هو الاضطراب الداخلي الناشئ عن عمليّات تبدو في الظاهر غير مشوّشة. والاضطراب الدّاخلي، النّاجم عن العبء أو المأزق المزدوج، سوف يعبّر عن نفسه أساساً على شكل تقصير في الضّبط، واضمحلال للاستقرار الداخلي، أي على شكل اختلال».
يصرّ الفيلسوف العريق موران على أنّ الاضطراب الحقيقي في الأزمة هو الاختلال، يقول: «في النتيجة، فإنّ الخلل التنظيمي سيُتَرجَم باختلال وظيفي، حيث كانت هنالك وظيفة، وبانقطاع حيث كان هنالك تواصل، وبارتجاع إيجابي حيث كان هنالك ارتجاع سلبيّ، وبنزاع حيث كان هنالك تكامل. ازدياد الفوضى وغياب اليقين. إنّ كلّ نظام حيّ، خصوصاً كلّ نظام اجتماعي، يتضمّن فوضى داخله، وهو يعمل رغم الفوضى، وبسبب الفوضى، ومع الفوضى؛ ما يعني أنّ جزءاً من الفوضى مكبوت، ومفرغ، ومصحّح، ومحوَّل، ومدمج».
لكن حين نسأل موران بشكلٍ مباشر، وهو الممارس للفلسفة والفاقه بالصحافة: ما مفهوم الأزمة؟!
يرى أن «الأزمة دائماً هي تراجع الحتميّات والاستقرار والقيود الداخليّة ضمن نظام ما، فهي، إذن ودائماً، زيادة للفوضى ولغياب الاستقرار وللتغيّرات. يجرّ هذا الأمر زيادة في غياب اليقين، إذ إنّ تراجع الحتميّات يجرّ تراجعاً للتوقّعات. ويدخل مجمل النظام المتأثّر بالأزمة مرحلة عشوائيّة حيث يوجد غياب يقين حول الشّكل الذي سيكون عليه مستقبله القريب. طبعاً من الممكن أن تكون هنالك قدرة على التّنبؤ من جديد، بدرجة ثانية، في ظروف معيّنة: إذا ما افترضنا، على سبيل المثال، أنّ مرحلة (اضطرابات) اقتصاديّة وسياسيّة تسلسليّة قد بدأت في مجتمع معيّن، فإنّ القدرة على التنبؤ تضعف من يوم إلى آخر كثيراً، لكن من المتوقّع أنّ حلّاً سلطويّاً سيفرض نفسه، وهو حلّ يمكن توقّعه بدراسة موازين القوى والاستراتيجية في هذا المجتمع ومحيطه. تعطّل، تحرير اللّافت هو أنّ فيض الاضطرابات مترافق مع شلل وتصلّب ما كان يشكّل المرونة التنظيميّة للنظام، أي وسائل الردّ والاستراتيجية والضبط، وكلّ شيء يجري كأنّ الأزمة تعلن موتين، وهما، إذا ما جُمعا، يُشكّلان فعليّاً موت النُظم الأونتروبيّة العكسيّة: التفكّك، أي التشتّت والعودة إلى فوضى العناصر المُكَوِّنة من جهة، والتيبس الموتي (régidité cadavérique) أي العودة إلى الأشكال والمسببات الميكانيكيّة من جهة أخرى».
الخلاصة أن الحدث الكبير، سواءٌ منه السياسي، أو الحربي، أو الاقتصادي، ينتج أزمته، حتى العواصف الإيجابية الكبرى تحدث تأزيمات ضد المعترضين عليها، من هنا فإن مفهوم الحدث، ومنه بالتأكيد الحدث السياسي، ينتج أزماته الكبرى لا اللحظية التي ترصد صحافياً فقط، وإنما على المدى البعيد. ثمة مفاهيم مدوّية، منها ما طرحه هيغل حول الاستلاب أو الاغتراب. إن الغربة عن الشيء حضورٌ معه لكن من دون أن تكون فيه، هذه هي مشكلة الأحداث الكبرى؛ أنها تنتهي ولكنها تظل تستنزفك على المدى البعيد. حرب الخليج وقعت، وأثرها الكارثي حتى اليوم يمضغ منها العراق العلقم، رغم تمجيد البعض لديكتاتورية الطاغية المغامر الذي حاول جرّ المنطقة معه إلى خياله وأوهامه حيث الجحيم، ولله في خلقه شؤون.