من الصعب إقفال درس العنف؛ أو ادعاء الوصول إلى حدٍ نظري له، فضلاً عن استحالة التحديد الأخلاقي له.
كما أن العنف يتطوّر على المستوى التكنولوجي، فإنه يتحوّل ويتغيّر كذلك على المستويات النظرية والتحديدات القانونية والأخلاقية.
العنف الدائر الآن في أكثر من بلدٍ بالمنطقة والعالم لا تحدده النظريات الأخلاقية، ولا تحكمه المواثيق الدولية، ولا اللوائح القانونية. إنه عنف متشظٍ، ولكل مجزرةٍ تبريراتها عند مفتعليها، ولكل حدثٍ معززاته النظرية عند مباشِره. وعليه فإن الحديث عن العنف سيطول لأنه ظاهرة أبدية مرتبطة بالدول والمجتمعات، ولا تزال الدروس والأبحاث حول العنف تطرح كل يوم.
ومن ذلك ما كتبه إيف ميشو في بحثه المعنون بـ«العنف»، إذ يعد الحضور القوي والمثير للعنف مثل أحد أشكال الفشل الأساسية للفلسفة السياسية. لقد فقد الفكر، بالانتقال من مغامرة إلى مغامرة، يقيناته وتراجع، سواء تعلق الأمر بالادعاءات العلمية أو المعتقدات المذهبية الخاصة بالأفكار الثورية، وبمظاهر الشلل أو التحذير تجاه الأنظمة الاستبدادية والهذيانات الفاشستية، وبالتبريرات الباردة للاختيارات النووية، وبالنزعة المتطرفة للاتجاهات الإرهابية. لقد انفتحت الأعين وتبددت الأوهام، لكن لتترك المجال لنوع من الغباوة تجاه عالم تضاعف فيه العلاقات الدولية التحالفات الشاذة، وتتحول فيه، في الأغلب الأعم، المشروعات الثورية إلى أشكال من الاضطهاد، وتسوده الواقعية والوقاحة.
يعد ميشو قضايا اللاجئين مما يناقش تبعاً لقيمة المواد الأولية والأقليات تساوي ثمن العلاقات الدبلوماسية. وباستثناء بعض الحالات النادرة فإن الفكر كان في حالة ركوض وراء عنف يعميه، وقد كانت نقطة العمى وستظل هي الفاصل القائم بين المثل والإمكانات الفعلية للتحرر (الذي لم يكف أي نظام في هذا القرن عن ادعاء الانتماء إليها)، وبين واقع المصالح والفحش والحسابات التي تحكمت في مسار التاريخ، وبين الإعلان المستمر عن غايات سامية وواقع الممارسات الخسيسة أصبح العنف لغزاً مألوفاً أحياناً، وكأنه كان من اللازم أن يخدم أهدافاً أخرى، وأن يخفي عمليات أخرى، وكأنه لا يستطيع أن يكون فقط ما هو، بل عليه أن يحيل على واقع آخر. كان من اللازم إذن فهم العنف، وفك رموزه وتأويله بتبرير مشروعيته أو بإدانته باسم مجرى التاريخ، وبنية المجتمعات، وأزماتها ومخاض تقدمها. كان من اللازم إيجاد أسباب له أو غايات سامية.
ثم يفتح ميشو التساؤل عن الفروق التي يمكن أن تكون بين الإرهاب الثوري في عهد الاتفاق الوطني (بفرنسا سنة 1892) والإرهاب الستاليني، وبين نفي الهوغونوت الفرنسيين بعد نقض مرسوم نانت من طرف لويس الرابع عشر في 1685 (هاجر واحد في المائة من سكان فرنسا إلى عدة دول أوروبية) ونزوح لاجئي جنوب شرقي آسيا. ليس ذلك من أجل أن نستخلص بأن لا شيء يتغير أو على العكس من ذلك بل كل شيء يتغير، ولكن لنتعلم من جديد أن ننظر إلى الوقائع ضمن ظروف إنتاجها التاريخية وضمن تنوع الإدراكات الممكنة لها.
بناءً على سؤاله يفتح فكرة «موضوعية العنف» التي بنى عليها تفسيره للظاهرة، بمعنى عام، ومن أجل إبعاد الأكاذيب والدعايات، نقول إن هناك عنفاً عندما يحطم واحد أو عدد من الفاعلين شخصاً آخر، مباشرة، أو بصورة غير مباشرة، دفعة واحدة أو بالتدريج.
ارتبطت موضوعية العنف بما يسميه ميشو «تكنولوجيا الوسائل»، ويشمل تطوير وسائل التسليح الفردي كما يشمل وسائل الخراب الجماعي - وهي ليست فقط وسائل نووية، بل إن هذه الوسائل متوفرة وموزعة بسهولة من طرف التجارة الدولية في الأسلحة، والمعاهدات المتعلقة بالمساعدة المعنوية العسكرية، التي هي أحد مصادر الاستغلال الأكثر مردودية بالنسبة للبلدان المصنعة. إن هذه التكنولوجيا المتطورة لا تجعل العنف في المتناول فقط، بل تجعله على وجه الخصوص أكثر فتكاً.
ثم يناقش موضوع «تسيير العنف»، فمن المثير - يضيف - أن نتحدث عن التسيير بصدد ظواهر ما دام اتسمت باللامعقولية لكن ذاك هو بيت القصيد: فالعنف قد أصبح بالتدريج أمراً قابلاً للحساب وللتحكم والتسيير. لقد أفسح فن الاستراتيجية المجال أمام مبادئ التسيير. وهذا يصدق على الحسابات الاستراتيجية، حيث يحسب المتعادون التكاليف والمكاسب المرتبطة بأعمالهم الممكنة، آخذين بعين الاعتبار الإجابات الممكنة للآخر، ومن هنا ما ندعوه «توازن التهديد» في الاستراتيجية النووية والذي تم نقله إلى الاستراتيجيات الإرهابية أو إلى الحفاظ على النظام في السياسة الداخلية؛ وهذا صحيح أيضاً بالنسبة للتسيير اليومي لأعمال ووسائل العنف: التنظيم وفن تسيير الجيوش، ومقاييس مردودية الشرطة، وقوى الحفاظ على النظام، والجيوش، وكذا في ميدان البرامج العسكرية، وتجديد النماذج، والاستثمارات وإمكانية استعمالها بواسطة بيع الأسلحة.
تكنولوجيا الأشخاص العاملين: لقد أصبح من الضروري إسناد أمر العنف إلى محترفين مهرة، وذلك بفعل تطور الوسائل وتعقدها، وبفعل الحسابات والحرص على الفعالية. لقد أصبح هناك عسكريون ورجال شرطة يتخصصون في العنف. وحركة التأهيل والاختصاص هاته تشمل أيضاً المناضلين الثوريين. تكنولوجيا الإعلام: لم يعد العنف منفصلاً عن وسائل الإعلام التي تنشره وتستعمله كما تشاء أو تصمت عنه. فالإرهاب العلني، والتعذيب، والإعدامات، والتهديدات الدبلوماسية، والمناورات العسكرية، والوقائع المتنوعة المثيرة: كل تلك حالات يظهر فيها التلازم بين العنف الواقعي وانتشاره الإعلامي.
الخلاصة؛ أن العنف بتاريخيته كان شريكاً في الحياة اليومية، سواء عبر التنافي الرمزي، أو التناحر الثقافي والحضاري بين الأفراد في المجال العام، على المستوى الجماعي فإن العنف شريك في تأسيس نماذج كبرى بالعالم، جلّ السحر الذي نراه في مدن الأحلام بالعالم أساسه بني على الأشلاء والجماجم والحروب الأهلية، لذلك من إحسان الظنّ بالإنسان أن يسأل البعض عن سبب العنف المنتشر اليوم، إنه جزء من تاريخ الإنسان، الفرق فقط في وجود تكنولوجيا متطوّرة أسهمت في نقل الحدث وتعميمه، وإلا فبطون كتب التاريخ مليئة بالفظائع والمجازر الغريبة مما لا يخطر على البال.