بقلم - فهد سليمان الشقيران
من أهم ما يميز الفلسفة أنها مجال مفتوح، يتجدد مجالها، وتتصاعد وظيفتها مع تغير الأحوال والظروف، ومن يطالع أي تاريخٍ لها وإن كان مختصراً على النحو الذي فعله هيغل في محاضراته وفي فاتحتها يعتبر أن: «ما يمثله تاريخ الفلسفة هو توالي النفوس الشريفة، معرض أبطال العقل الذي يفتكر، الأبطال الذين تغلغلوا، بفضل هذا العقل، في جوهر الأشياء، في الطبيعة والروح، في جوهر الله، وأقاموا لأجلنا الكنز الأعظم، كنز المعرفة العقلانية، إن الحوادث والأفعال في التاريخ هذا تكون على إثر نوعٍ يجعل مادته وقيمته متمايزتين عن الشخصية والطابع الفردي، في حين أن الفرد في التاريخ السياسي، حسب خصوصية طبيعته وعبقريته وأهوائه وقوة مزاجه أو ضعفه، وبوجهٍ عام حسب ما هو مبرر لكونه هذا الفرد المتعين هو فاعل بحيث لا يمكننا عزوها إلى الفرد الخاص، وبحيث لا يمكن إسناد استحقاقها إليه، وأنها تتوقف أكثر على الفكر الحر، على السمعة العامة للإنسان من حيث هو إنسان، وأن هذا الفكر المحروم من الخصوصية بالذات هو الفاعل الذي ينتج».
ما من صراعٍ بين العلم والفلسفة، برغم وجود نعرات لفلاسفة وصراعٍ حول هذين المجالين من حيث التفضيل، بيد أن الفلسفة بتاريخها كانت رافعة للنظرية العلمية من حيث توفير أرضية الأسئلة التأملية، التي لا يشترط أن تكون مرتبطة بنظرية علمية، كذا فعل الفلاسفة اليونانيون حين تحدثوا عن النار كما لدى هيرقليطس، أو الماء كما لدى أرسطو، أو الذرة كما لدى ديموقريطس، فالعطاء الذي تمنحه الفلسفة إنما يأتي على شكل فتوحات وشذرات، التماعات ورؤى وومضات حين تناقش أصل الكون، ولكنها لم تبقَ منفصلة مع التطور العلمي وخصوصاً في المجالات الرياضية منذ القرن السادس عشر وما تلاه، غير أن العلم لم يستطع اجتياح الفلسفة ولا إلغاء دورها، نجد النمط التأملي حاضراً لدى فلاسفة رياضيين من أمثال ديكارت وبليز باسكال ولايبنتز، فالعلم لم يغلق أسئلة الفلسفة، ولا يمكنه ذلك، بل كل حلٍ علمي لسؤالٍ فلسفي، يعقبه سؤال فلسفي جديد على النحو الذي يطالعه كل قارئ للنظريات الشاملة حول المعرفة لدى فلاسفة لهم باعهم في العلوم الطبيعية من مثل إيمانويل كانط، والذي لا تزال آراؤه ومفاهيمه فاعلة ومحل نقاشٍ حتى اليوم، فهو من أعظم فلاسفة التاريخ إن لم يكن أكثرهم أهمية وإشعالاً للجدل والنقاش الحيوي، وخصوصاً في كتابه «نقد العقل المحض». ومشروع كانط بحر متلاطم ومن ظريف ما وصف به قول سمير بلكفيف، في كتابه: «التفكير مع كانط ضد كانط»: «إنك لتشعر في مؤلفات كانط كما لو أنك في سوق ريفية، فبمقدورك أن تشتري منه أي شيء ترغب فيه، فستجد لديه حرية الإرادة وعبوديتها، والمذهب المثالي ودحضه، والإلحاد والإيمان بالرب الخيّر». وتقوم هذه الفلسفة على الأسئلة الثلاثة المشهورة: ما الذي يمكنني أن أعرفه؟ ويمثل مشكلة المعرفة، وما الذي ينبغي أن أعمله؟ ويمثل المشكلة الأخلاقية، وما الذي أستطيع أن أمله؟ ويمثل المشكلة الدينية».
عمل كانط يضيف بلكفيف على: «تحليل فكرتي المكان والزمان باعتبارهما أساس القبلي والتركيبـي، ومثل هذا التحليل يسميه كانط «الإستطيقا الترنسندنتالية»، لذلك نجد كانط يبدأ بتحليله لفكرتي المكان والزمان حيث يتجاوز التصور اللايبنتزي (مجرد علاقات) والتصور النيوتني (المطلق)، حتى يضمن لهما الذات الإنسانية، ولكي يتسنى لنا تسويغ مشروعية قيام الرياضيات وبالتحديد تفسير الحكم التركيبـي القبلي، وهذا هو مسوغ تقديمنا لنظرية كانط في المكان والزمان قبل نظريته في الرياضيات، فتحليلنا لنظرية كانط في المكان والزمان يعكس مدى صلتهما بنظريته في الرياضيات، وبالتالي فالعيان القبلي (المكان والزمان) هو الذي يؤسس مشروعية قيام العلم الرياضي الحساسية الترنسندنتالية: إن المعرفة عند كانط مشروطة بعاملين أساسيين هما: الحدس «Anchauung» والفهم «Verstand»؛ أي الحس والفكر، فالحس دون مفاهيم فوضى، والمفاهيم دون حدوس جوفاء، والخطوة الأولى هي تمييز المفاهيم عن الحدوس بغرض التحليل والوقوف عند الحساسية في جانبها الترنسندنتالي؛ أي في جانبها القبلي وقد عزلت عن كل مقولات (kategorie) الفهم وأحكامه وتصوراته، فنصبح بذلك إزاء معطيات حسية (sense data) غير خاضعة لأطر ومفاهيم قبلية، أما الخطوة الثانية فتتمثل في عزل تلك الحساسية عن الإحساس، فلا يبقى لنا سوى الحدس المحض الذي هو مجرد صورة للظاهرات، والعلم الذي يبحث في مبادئ الحساسية القبلية يسميه كانط «الإستطيقا الترنسندنتالية»، وهو الذي يسمح لنا بالوقوف عند الحدوس الخالصة أو الصور الخالصة للحدس، فالمكان (ort) والزمان (zeit) هما صورتا الحساسية الخالصة والإحساس هو مادتهما العامة، ومعرفتنا لهما هي دائماً قبلية (priorita) أولية متقدمة عن كل تجربة، في حين أن الإحساس عنصر نستمد منه معرفتنا البعدية (spatersein)».
نقل كانط مسار الفلسفة، ووضع لها منعطفاً لم تتجاوزه حتى الآن، ويتعلق بنحت أسئلة في طريقها وجعل مهمتها أكثر جدية، ووضعها في سجالٍ مع العلم من دون أن تذوب فيه، وإنما السجال بين العلم والفلسفة يجب أن يظل قائماً ليس على مستوى تماهي الإجابات، ولا تشابه الأسئلة وإنما لغرض تمتين عرى الفلسفة وجعلها تأخذ مكانتها الطبيعية بين المجالات المعرفية، وسيأتي من بعد مارتن هيدغر الذي يعتبر الفلسفة تتفوق على العلم لأن: «العلم لا يفكر»، بينما هوسرل ذهب أبعد من ذلك عبر طرحه علم الظاهريات، وبدوره استطاع أن يفتح أسئلة حول علاقات الفلسفة بالعلم والسيكولوجيا والخبرة السابقة للإنسان، فكيف يمكن نحت سؤال فلسفي من دون تنحية الخبرات الذاتية حول الموضوع؟! سؤال جعل كتبه الأساسية تدور في فلكه، وخصوصاً كتابيه: «أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص والفلسفة الظاهراتية» وكتابه الآخر: «مباحث منطقية» إذ خصص الجزء الأول بكامله تقريباً للبحث في هذه المعضلات.
تلك التوطئة أوردتها لغرض إيضاح فكرة أساسية خلاصتها أن اقتحام الفلسفة من قبل الأصوليين، ليس وليد اليوم، كما أن استغلال مؤسسات، وتيارات، وآيديولوجيات دينية لمفاهيم فلسفية لم تسلم منها حتى الظواهر الإحيائية المسيحية مثل اللوثرية، وفي العالم الإسلامي، استخدمت الفلسفة منذ زمن أبي حامد الغزالي في رده على ابن رشد، إذ أفاد من المجال الفلسفي لنقض الفلسفة، كذلك فعل ابن تيمية في الرد على المنطقيين، إذ أخذ كل عدته في فهم المنطق الصوري للرد عليهم، ونجد في مؤلفاته وخصوصاً في «درء تعارض العقل والنقل» أو كراريس من «الفتاوى» أو ما أفرد لاحقاً بكتابٍ حمل عنوان: «الرد على المنطقيين» التوظيف الشبيه لكل الآيديولوجيين الذين استخدموا الفلسفة، وقد وجدتُ خلال السنوات القليلة الماضية الكثير من الاضطراب لدى فئتين، أولهما: توظيف الأصوليين للفلسفة، والآخر: جهل المهتمين بالفلسفة بخطر الأصوليات.