بقلم : فهد سليمان الشقيران
سألني الإعلامي محمد العسيري في برنامج «ماذا؟» على «mbc fm» حول موقف المثقفين من التحولات الرياضية. وأجبتُه بأن نوعية المثقفين القديمة آلت إلى الانحسار، وذلك لسببين أساسيين؛ أولهما أن المثقف باتت أدواره محدودة، طغت وظيفة الخبير على مهنته. التنظير له حيويته وجماله، وله قيمته العلمية، ولكن تأثير ذلك التنظير بات محدوداً. والثاني أن المثقف لم يعد على مستوى واحدٍ من الانضباط الأخلاقي، أو التعمق المعرفي، بل أخذ موجةَ التثاقف مجموعة من المنتفعين، والمتعالمين، وحالة التفاضح بين المثقفين معروفة في الشرق والغرب، ومَن قرأ «مضاربات» مثقفي مصر في كتاب أنيس منصور «في صالون العقاد» وكتاب سعيد اللاوندي عن عبد الرحمن بدوي عرف مستوى الذاتية في التعاطي بينهم. قل مثل ذلك في تاريخ الثقافة السعودية، كما يورده الغذامي في كتابه «حكاية الحداثة»، وفي تفضيح غير أخلاقي قام به بدر شاكر السياب في كتابه «كنتُ شيوعياً»... هذا نزر يسير من الذاتية الفجَّة التي جعلت المثقفين خارج الثقة المجتمعية في الغالب، إلا القلة التي استطاعت أن ترسم لها خطَّها المتميز في التفاعل مع مستجدات المجتمع والسياسات.
حتى العنف اللفظي مورس عربياً من أكبر الكتّاب العرب، وهو يبين مدى الحضور الذاتي ودخوله في الإنتاج الفكري والفلسفي على عكس ما يظن البعض.
فهذا فيلسوف عربي يأخذ على عبد الرحمن بدوي أنه يغلق الباب بعنف حينما ينزل من السيارة، بعد أن أوصله بسيارته إلى بيته ليلاً خارجين من المقهى في باريس. وبدوي يصف العقاد بـ«التافه الذي لا يشتري كتبَه أحد ولا يقرأ كتبه أحد». وأركون، حسبما يروي سعيد اللاوندي، يقول: «لا أخفيك أن بدوي كريه». والجابري وصف طرابيشي بـ«المسيحي» الذي لا يحق له نقد التراث الإسلامي. ومثله في الإنتاج الفلسفي الأوروبي بين فخته وهيغل، وبين هابرماس وفوكو؛ فالذات لا يمكن أن تنفك عن الإنتاج الفكري والفلسفي، وهي تحضر بشكل أوضح في حال غيابها. إن المطالبة العمياء بتنقية الإنتاج الثقافي من العناصر الذاتية والاقتصار على الموضوعية باتت شبه مستحيلة. رولان بارت قال إن «المثقفين لا يصلحون لشيء». تلك الموجة انعكست على الفكر العربي من خلال كتاباتٍ تنتقد المثقف، من بينها كتاب «نهاية الداعية» لعبد الإله بلقزيز (صدر عام 2000)، وكتاب علي حرب «أوهام النخبة أو نقد المثقف» عام 2004، وتلاها العديد من الكتب التي تصب بهذا المجال، ومنها كتاب إدوارد سعيد «صور المثقف».
الظاهرة السوشيالية فضحت كثيراً من الأيقونات الثقافية التي كانت لها هيبة صنعها صمتهم المطبق وحضورهم الموزون، من خلال الملاحق الثقافية والمطبوعات الدورية والصحف اليومية، ولكن بعد أن دخلوا بان العوار.
ومع مستوى النمو والتطور الذي تشهده المنطقة، بفضل رؤية فذَّة للأمير محمد بن سلمان، بات المثقف أمام تحدٍ عالٍ؛ فالموضوعات التي يشكو منها المثقف، كالتطرف، والتنمية، والانفتاح، والضبط الإداري، ومكافحة الفساد، وتجديد التعليم، ونفض المؤسسات التربوية كلها، قام بها السياسي بكل جدية وحزمٍ وجدارة، وبالتالي صار المثقف لا يجد ما يتحدث عنه إلا إن كان لديه تخصص متمكن منه وممسك بتلابيبه حينها تكون الكتابة أسهل عليه.
قرأتُ قبل أيام ما نشرته في هذا السياق مجلة «حكمة» لإيلين مكسينس وود، بعنوان «تقهقر المثقفين»، ترجمة محمد كمال. الخلاصة التي وصلت إليها هذه العالمة ذات المرجعية الاشتراكية والمؤرخة والأستاذة في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس وبيركلي هي كالتالي: «كان الهدف من مفهوم (المجتمع المدني) لدى غرامشي، بشكل لا لبس فيه، استخدامه كسلاح ضد الرأسمالية، لا كمأوى لها. ورغم جاذبية سُلطته التي أصبحت من دعائم (التنقيحية الجديدة)، فإن مفهوم المجتمع المدني باستخدامه الحالي لم يعد لديه هذه النية المناهضة بشكل لا لبس فيه للرأسمالية. لقد اكتسب الآن مجموعة جديدة من المعاني والنتائج، بعضها إيجابي للغاية للمشاريع التحررية لليسار، والبعض الآخر أقل من ذلك. ويمكن تلخيص هاتين النتيجتين المتناقضتين بهذه الطريقة: يشير المفهوم الجديد للمجتمع المدني إلى أنَّ اليسار قد تعلم من دروس الليبرالية حول مخاطر قمع الدولة، ولكن يبدو أننا ننسى الدروس التي تعلمناها في السابق من التقاليد الاشتراكية حول مساوئ المجتمع المدني. من ناحية، يؤيد أنصار المجتمع المدني دفاعنا عن المؤسسات غير الحكومية والعلاقات ضد سلطة الدولة، ومن ناحية أخرى، يميلون إلى إضعاف مقاومتنا للقهر الذي تمارسه الرأسمالية ضدنا»
إدوارد سعيد تساءل بدوره في محاضراتٍ تحولت إلى كتابٍ، بعنوان «صور المثقف»، عن جدواه داخل المجتمع، ويضعه على الطريقة الغرامشية بإزاء «السلطة» ويتساءل عن الدور الذي يقوم به منطلقاً من التجارب الثقافية في القرنين التاسع عشر والعشرين. وكتب عن مفهوم إدوارد الكاتب كمال ديب في جريدة «النهار»، بعنوان: «عندما سألني إدوارد سعيد هل أنت مثقف؟»، فأورد فيه تحديد دوره بأن «المثقفين هم الأشخاص الذين يتحلون بالموهبة الاستثنائية وبالحس الأخلاقي الفذ فيشكلون ضمير البشرية. ولكنهم ليسوا معصومين، وقد يقعون ضحية إغراءات ويخونون قضية الثقافة، فيتخلون عن رسالتهم ويتعرضون للشبهة. والمثقف الحقيقي يجب ألا يقل مبدئية عن يسوع المسيح وعن سقراط، أو عن شخصيات أكثر معاصرة، مثل سبينوزا وفولتير. وهذا المثقف الحقيقي يدافع عن المعايير الأزلية».
الخلاصة أن الثقافة اجتيحت من قبل وسائل التواصل وانشغال الناس بالثورات التقنية الجهنمية الساحرة، ولكن دور المثقف المتنازَع عليه بقي بين تحديد دوره «كوسيط معرفي»، ومَن يضخّم دوره ليجعله مواجهاً لكل العالم كما فعل إدوارد سعيد. أرى أن المثقف شخصية عادية مثله مثل أي شخصٍ امتهن هواية؛ مثله مثل الرسام واللاعب والتقني، كل يؤدي عمله ويعرف محدودية تأثيره، سيبقى دور المثقف بحيويته الفعالة كما هو مشروع وزارة الثقافة الطموح المتواكب مع الرؤية، وعلى المثقفين تجديد الوعي بالتحولات التنموية الكبرى.