بقلم : فهد سليمان الشقيران
عاصفة غزة فتحت الكثير من الأسئلة لدى الباحثين والمتخصصين؛ ومن أولئك من عاد إلى جذر مشكلة العنف عبر التاريخ. لقد وقع بعض المفكرين والفلاسفة لعالم من الخيالات الواهمة، والطموحات المستحيلة، مثل إنهاء موضوع العنف، أبرزهم إيمانويل كانط الذي لم يحلم بإنهاء العنف تحديداً وإنما دعا إلى «السلام الدائم» أي اجتثاث احتمال الحرب، وتبعه بذلك جزئياً بعد اكتشاف القنبلة الذرية برتراند راسل، والواقع أن العنف موجود منه الرمزي واليومي الذي يستخدمه الناس ضد بعضهم بالثرثرة التي تشفي صدور المحبطين الفارغين، أو العنف المقدس كما هو تعبير رينيه جيرار، أو العنف السياسي كما يحدث في غزة اليوم. لذلك لا بد من الاتجاه إلى صلب المفهوم بغية درسه وتحليله.
الفيلسوف الفرنسي إيف ميشو ليس لديه الكثير من الوقت للفّ والدوران، ذهب نحو دراسة الموضوع ببحثٍ مباشر ومتقن تحت عنوان «العنف».
توصل فيه إلى مجموعة من النتائج منها أن التباسات التنظيم الاجتماعي للعنف تسببت في إيقاظ حالة اجتماعية تتعارض مع الحالة الطبيعية، المنظور إليها كحالة براءة خالصة لدى روسو أو كعنف حاضر حضورا كليا لدى هوبز، هي حالة خضوع السلوكيات الفردية لمجموعة من القواعد. وهذا يعني قيام نماذج من السلوك يتعين اتباعها، وهي نماذج تجدد كذلك بعض التوقعات:
وبتقديره فإن بعض الظروف المحددة تعين على المرء أن يسلك سلوكاً محدداً وأنه في حالة إخلاله بذلك سيطبق عليه هذا العقاب، الذي هو عقاب متوقع كذلك. إننا في كل معاني هذه الكلمات نعرف ما يجب القيام به وكيف ستمر الأشياء سواء أطعنا أو عصينا. وبغض النظر عن المضمون، فإن كل أنواع القواعد كالقانون والاتفاقات والأعراف والعادات والتقاليد، كل في مستواه، أنواع تنتج انتظامات بمقابل ما ندعوه بالفوضى والعماء، أي الحالة التي يمكن أن يحدث فيها كل شيء، ويمكن أن نتوقع فيها كل شيء. يمكن هذا الانتظام الاجتماعي من تعايش الأفراد الذين هم من الاختلاف بحيث لا يمكن - إذا ما تقابلوا مباشرة - أن يتواصلوا، ولا أن يلتقوا (كما هو الأمر في الحالة الطبيعية عند روسو) - أو أن يتواجهوا (كما هو الأمر في الحالة الطبيعية عند هوبز). وبذلك يؤكد هوبز أن الناس يفضلون استبداد الأمير السيد على عدم الأمان وعلى العنف الملازم للحالة الطبيعية حيث لا يعرف أي واحد ما الذي ينتظره من الآخرين.
لكن السؤال الذي يجب طرحه على ميشو، هل يمكن تصور مجتمعات من دون عنف؟!
يجيب: «ما يزال هناك شيء من هذا التصور الحدسي للحياة الاجتماعية كنقيض للفوضى أو للعنف عندما تقول الخطابات المجاملة حول تنامي العنف بأننا يمكن ابتداء من الآن أن نتوقع كل شيء، وأن كل شيء يمكن أن يحدث ويبالغون حول الخوف من عدم الأمان. إن تنظيم السلوكات الفردية بواسطة المجتمع يأخذ مظهرين متعارضين: يقصى هذا التنظيم، من ناحية، العنف الجذري، أي عنف الحالة الطبيعية، والاختلال المطلق، والفوضى - التي ليست فقط وهما فلسفيا: فأوضاع الحرب الأهلية، والفترات التي تتلو النكبات (لنذكر الحدوث المباشر للنهب بمجرد ألا يكون هناك نظام)، والأزمات الدائمة هي الأوجه المألوفة لهذه الحالة
من المستحيل-يقول ميشو- تبرير العنف. بل يعتبر أن «من البديهي أن تبريراً ما للعنف على أساس القاعدة الدارجة القائلة بـ(الغاية تبرر الوسيلة)، لا يمكن أن يكون له وزن. فهو إنما يعيد استخدام المنظور الأداتي المتعذر الأخذ به والذي يعتبر أن القيمة الوحيدة هي النجاح الأداتي لتصرفات تظل غاياتها خارج التساؤل. والحقيقة أنه باسم هذه القاعدة تقترف اليوم كل التصرفات الرديئة: التعذيب، الإرهاب، الحلول النهائية الحاسمة، المعسكرات... إلخ».
الخلاصة؛ أن العنف موضوع مركب، إنه أداة اتصال وانفصال، بل يمكن القول إنه جزء من إدارة الأزمات التي تعصف بالمجتمعات والعالم، لذلك جاءت الفلسفات العقلانية لترتيب موضوع العنف على النحو الذي طرحه ماكس فيبر حين اعتبر الدولة هي التي «تحتكر العنف» ولم يقل تحاربه أو تكافحه، إن النظريات الكبرى حول هذا المجال لم ينجح إلا العقلاني منها والمرتبط بالترتيب والتقنين. يكتب رضوان السيد شارحاً مقولة فيبر: «ففيبر نفسه يقول إنّ للشرعية ثلاثة أنماط هي: النمط التقليدي القائم على الأعراف والعادات المتوارثة التي أطبق عليها الناس مثل الأنظمة الملكية. وقد تذكر المراقبون مدى قوة هذا النمط في حفل تتويج الملك البريطاني تشارلز الثالث، وقد ذهبوا إلى أنّ هذه التقاليد شكلاً ومضموناً تبلغ قرابة الألف عام؛ رغم التغير الكبير الذي طرأ عليها. أما النمط الثاني فهو النمط الكارزمي، حيث تتجدد وتقوى (شرعية) زعيمٍ قائمٍ وصل إلى السلطة بأسلوبٍ غير تقليدي، فحقق انتصاراً ردّ به عدواناً أو أسر مخيلة الجمهور بقدراته الخطابية أو الإنجازية. لكنْ إذا كان (القبول) النخبوي أو الشعبي يهبُ نوعاً من الشرعية؛ فهل يمكن المصير إلى اعتباره (نمطاً) رغم أنه لا يتكرر غالباً، أو قد يتحول طغياناً؟ والنمط الثالث هو النمط الدستوري الحديث الذي يقوى ويتمتَّن بالانتخابات الحرة، والانتظامات القانونية التي تُكسبُه الاستمرار العلني المعروف والمتوافق عليه نمطيةً تجعل من المسوَّغ اعتبارها شرعيةً، شأن الأنظمة التي سادت في النظام العالمي الحديث والمعاصر. وهكذا وفي النمطين الأول والثالث يصحُّ القول باحتكار العنف مسوِّغاً للشرعية استقراراً واستمراراً، وتحقيقاً لمتقضيات الشرعية التي تظهر آثارها في أنّ الدولة التي تستحقُّ هذا الاسم، هي التي يتمكن القائمون على السلطة فيها من أن تكون لهم شوكةٌ في الحماية بالداخل، والدفاع أو السيادة تجاه الخارج. وأصل هذا أتصور مقولة توماس هوبز أنّ الدولة هي المخرج الوحيد من (حرب الكل على الكل) وعلى حقّها في احتكار العنف أو منعه تقوم شرعيتها من أجل استمرار الاجتماع الإنساني».
حتى من يحاربون العنف يحاربونه بعنف، العبرة بالنظريات والمعاني، لا بالألفاظ المثالية والمباني، إنه واقع شرس يحتّم علينا درس الأمور بعقل انطلاقاً من الذات فهي وحدها النافذة نحو فهم الواقع.