بقلم : فهد سليمان الشقيران
في ظلّ العصاب اليميني الذي يطل على العالم، تتوجه الأنظار نحو المؤسسات الدينية وعلاقاتها بالدولة. بعد محاولة اغتيال ترمب تعهّد الطرفان المتنافسان بأن يكون الخطاب أهدأ من ذي قبل.
دائماً ما تمثّل المؤسسات الدينية الرسمية بكافة الديانات ركيزة أساسية في بعث التسامح وتفكيك أسس الانغلاق، وآية ذلك أن المبادرات التي قادتها الدول المعتدلة في المنطقة ساهمت في تعزيز الحوار، ونحن في شهر محرم والشيعة لديهم مناسبتهم الخاصة، وهي مرعيّة ومؤسسة ومنظّمة ضمن القانون وأسس الانضباط. بحث الكثير من المتخصصين عن علاقة المؤسسة الدينية الإسلامية بالدولة، وإنما البحث في المؤسسة المسيحية معها كان شحيحاً، لذلك كان لزاماً على الدارسين إلقاء الضوء على هذا المجال المهمل.
وقد اطلعت على كتاب أصدره «مركز المسبار للدراسات والبحوث» قبل أيام بعنوان: «الكنيسة الروسية، سجالات التاريخ» يدرس الكتاب مع جمع من الباحثين السّجالات حول تاريخ الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، بدايةً من العلاقة بين الكنيسة والدولة في روسيا بين (1700 - 1917)، وتحديات الكنيسة بعد إصلاحات بطرس الأكبر التي أدخلت قيماً غربية غريبة عن التقاليد الروسية. تطرّق إلى انقسام المسيحية الروسية بعد حقبة رومانوف وانبثاق طوائف مثل المؤمنين القدامى رافضي التحديث. وعرض لعلاقة الكنيسة باليهود منذ 1721، ودورها في مرسوم التسامح 1905. سلّط الضوء على نظرية «موسكو - روما الثالثة»، بعد سقوط القسطنطينية، واعتبار روسيا وريثة البيزنطية وحامية للأرثوذكسية، وآثار ذلك على السياسة الخارجية. وسأعرض أبرز الدراسات.
عرض الباحث الأوكراني أندريه ميخالايكو للسجالات الدينية بين كييف وموسكو، حول انتشار المسيحية في المنطقة السلافية الشرقية، والتطوّر الكنسي التاريخي للمناطق السلافية الشرقية بعد انهيار دولة كييف [كييف - روس] التاريخية. يبني الباحث نظريته حول الصراع بين كييف وموسكو، على الشرعية لأسباب سياسية، لافتاً إلى أنّ الاختلاف بين المؤرخين محدود، ويمكن بسهولة تبيان حقيقته، وهو ما عُنيَ بشرحه، مشيراً إلى اعتناق السلاف الشرقيين المسيحيةَ زمن الأمير فلاديمير الأول، ثم يمرّ على المتغيرات الطارئة على النظام السياسي بعد الغزو المغولي، ووقوع أوكرانيا تحت الحكم البولندي - الليتواني، والفوارق السياسية والدينية، الجوهرية، بين الثقافتين، مع الحكم الروسي، والآثار المترتبة على سقوط القسطنطينية سنة 1453، وكيف فسّرت الكنيسة الروسية هذا الحدث، وتبنّيها لمصطلحات جديدة تبدو مغرقة في الغيبية، مقابل الحوارات والسجالات التي انخرط فيها الأوكرانيون مع بقية الطوائف الأخرى، في ظل الانفتاح الذي تميّز به الكومنولث البولندي - الليتواني. ثم يناقش الباحث المفاهيم الدينية الروسية، وانعكاسها على السياسة، وانتقاداته لها، مجسّداً الانقسام.
أما وجه النجاح فكان في تعميم سردية دينية عميقة، قابلة لشحذ الإيمان، تناولها الباحث الروسي باڤل كوزينكوڤ في دراسته المعنونة «موسكو - روسيا... خليفة البيزنطية ونشأة معقل الأرثوذكسية الجديد»، تطرّق فيها لعلاقة الكنيسة مع الإمبراطورية التي نشأت بين الطرفين منذ تبنّي الإمبراطورية الرومانية، وعاصمتها روما، المسيحية، ووريثتها الإمبراطورية الرومانية الشرقية «بيزنطة»، وعاصمتها القسطنطينية، ومركزية فكرة الإمبراطورية الراعية للدين والكنيسة في الفكر المسيحي، وانتقاله إلى روسيا، بعد سقوط القسطنطينية، والذي أدّى لظهور مصطلح «موسكو - روما الثالثة» بوصفها وريثاً شرعياً ووحيداً لهذا التتابع الإمبراطوري، والدولة العالمية الأخيرة التي ستشهد المجيء الثاني للمسيح.
الخلاصة، أن المؤسسة الدينية بمسيحييها ومسلميها ويهودييها من الضروري أن تكون مناسقة ضمن المعنى العام للمشروع الديني والدنيوي في خط مستقيم، وسبب ذلك أن تكون شريكة في مشاريع التطوّر والتنمية، ومن دون ذلك ستكون مترهلةً لا تقوى على مواجهة النوازل من الأحداث. إن المؤسسة الدينية ضرورية لخلق التسامح وتأسيس مفاهيم جديدة، وتحديث المعاني التي تحثّ عليها كل ديانة، بغية التقارب بين الأمم والشعوب والثقافات والحضارات، وكما قال الإمام النووي: «كل البشر إخوة»، لنمضِ بهذا الطريق.