العلّامة العبودي قصّة قرنٍ من الإبداع

العلّامة العبودي... قصّة قرنٍ من الإبداع

العلّامة العبودي... قصّة قرنٍ من الإبداع

 العرب اليوم -

العلّامة العبودي قصّة قرنٍ من الإبداع

بقلم : فهد سليمان الشقيران

برحيل العلاّمة والرحّالة الشيخ محمد بن ناصر العبودي تفقد السعودية أحد أعلامها الكبار، وآخر الجيل الذهبي من رعيل المؤسسين الأوائل للتدوين والتأليف. جمع بين فنون عديدة وروّض طرائد شريدة، من الأسلوب الأدبي الماتع في حديثه وكتابته، إلى الذاكرة الحديدية المبهرة، وليس انتهاءً بالجلَد والصبر في البحث عن المعلومة، ثم القوّة في كتابتها وتوظيفها كما تشهد على ذلك كتبه المائتان التي ضمنها حصاد السنين. حافظ على قوته وصحته وذاكرته حتى أواخر سني حياته، حيث بادره التعب، وما كان تعباً جسدياً وإنما هو العمر وسنة الحياة.

حظيت بفرص لقاء العلّامة العبودي العديد من المرات بفضل وريث علمه وحارس قبّة درسه، وصائن نتاجه الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله المشوّح، الذي علّمنا على العبودي. جمعت الأستاذ بتلميذه صلة تجاوزت الثلاثين عاماً، وأذكر أن من أوائل كتبه وأشهرها وأكثرها حماسة آنذاك وهو مناسب لجميع الأجيال «أفريقيا الخضراء»، ثم بعد ذلك صرنا ننظر بانبهار وإعجاب كيف لهذا الرجل المسنّ يؤلف معاجم بعشرات المجلدات وهو في سنّ التسعين.
مما أسس له العلامة الراحل مع مجايليه أنه وضع وثائق تاريخية، وجمع المادة «الخام» التي يمكن للعلماء والأنثربولوجيين أن يستفيدوا منها ضمن عدتهم العلمية الحديثة، حين تطالع المعاجم حول الإبل أو النخلة أو الأسر تعثر على سيرة مجتمع بأكمله بأدواته ومفاهيمه وأدوات إدارته للغته ولدنياه ولعلاقاته مع الآخرين.
يمتنّ الدكتور سعد الصويان للشيخ محمد العبودي لهذا الجهد، أن هذه الكتب الضخمة والكبرى توضح لنا مستوى جدة مجتمعنا وحداثته في تدوين مسيرته، والعبودي أخذ على عاتقه توثيق علومٍ ومعارف وقيم وسير يعلم جيداً أنه إن لم يكتبها فلن يكتبها غيره. إن المجتمع السعودي بأكمله ممتن لهذه السيرة الزاخرة بالعطاء؛ فمن دون هذا الجهد المديد كانت سيرة مجتمعٍ بأكمله ستنسى وتندرس وتهمل. لذلك؛ أتمنى من أقسام علوم الاجتماع وأساتذة العلوم الإنسانية والأنثربولوجيين السعوديين أن يبدأوا رحلة الاستفادة من مادة العبودي الخام ودرس المجتمع والإنسان بناءً على الوثائق الغنية التي بين أيدينا.
والراحل منذ صغره ذو قدرة نقدية، علّامة وفقيه وضليع بالعلوم الشرعية مع استنارة عالية، وتفسير متوازن، وقدرة مذهلة على التسامح. البعض يظنّ أن الشيخ تعلم التسامح من أسفاره وملاقاته أصناف البشر واللغات والحضارات والوجوه وتعرفه على الأديان، غير أن سيرته الأولى توضح أن له قراءة نقدية مبكرة من التشدد والتطرف، في جميع محاضراته لا تراه ينتقص من الآخرين ولا يستهين بالحضارات وإنما يعطي إلماحات عن الخرافات في شتى الأديان، حتى لدى المجتمع الإسلامي ثمة خرافات نقضها الشيخ بقوة. وحين تستمع إليه وهو يلقي بذاكرته واسترساله تتمنى ألا يتوقف، من ينسى حديثه وتغزّله بالمدينة التي أحبها من بين جميع عواصم العالم وهي «ريو دي جانيرو»، التي عاد إليها حتى مع كبر سنه ولكنها سفرة أنهكته. ومع أن الشيخ من كبار رجال الدين في السعودية غير أنه كان يصوّر أسفاره، ويلبس البدل الحديثة. لقد كان متفرداً عن غيره، ومستقلاً عن الآخرين. يقول عن زيارته للبرازيل «أستطيع أن أقول إنني زرت نحو 90 في المائة من الولايات المهمة في البرازيل، ولي كتاب تحت الطبع من ثلاثة مجلدات سميته (الحلُّ والرحيل في بلاد البرازيل)... ذكرت فيه ولايات البرازيل، وأشير إلى أنني ذهبت إليها مرة وحدي لأنه نتيجة لخبراتي السابقة في زيارة هذا البلد صار عندي شيء من معرفة اللغة البرتغالية، علماً بأن العرب لم يقوموا بزيارة تلك المنطقة؛ لأن هذه المناطق بعيدة وذهبت إليها بمفردي».
والشيخ ممن يقرأ بالأدب ومهتم بالصحف والمجلات والنقاشات الفكرية، لم يكن منغلقاً، بل كان منفتحاً على العلوم والمعارف. يتحدث الشيخ عن نفسه «المفكرون والكتّاب كانوا قلة في ذلك الوقت أيام الصبا والشباب، كما كانت الصحف محدودة الانتشار جداً وتقتصر على جريدتي (المدينة) و(البلاد) ومجلة (المنهل)، أما إذا سألتموني عن العلماء والقضاة فأذكر منهم الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله، والشيخ عمر بن محمد بن سليم قاضي منطقة القصيم، وكذلك شيخنا صاحب الفضل الكبير عليّ بعد الله سبحانه وتعالى في توجيهي وتعليمي الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، فقد كان الشيخ عبد الله يصطحبني معه إذا سافر بطلب من الملك عبد العزيز أو ذهب في مهمة، وحين أمره الملك عبد العزيز بأن يذهب إلى الحجاز ويأخذ معه مساعدين من المشايخ فأخذ ثلاثة وكنت أحدهم. وهناك من المفكرين والكتّاب الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عثيمين، رحمه الله، الذي انتقل من بريدة إلى مكة المكرمة ثم عمل مستشاراً في وزارة الحج والأوقاف ونشر عدة مقالات في جريدة (البلاد) وله عدة كتب، وأستاذنا الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سليم، وهناك مفكرون كثيرون تأثرت بهم، ولكن الكتّاب والصحافيين ليسوا كثراً».
أحب القراءة منذ صغره، وله كلمته المشهورة «كثر المثقفون وقلّ القارئون». وعن بداياته يقول «نعم من أهمها في الصغر والدي رحمه الله، فقد ذكر لنا أكثر من مرة أنه كان يتمنى أن يكون طالب علم ولكنه لم يستطع أن يلتحق بمدرسة إلا في كتّاب صغير قضى فيه فترة قصيرة ثم أخذه معه والده - جدي عبد الرحمن بن عبد الكريم العبودي - وكان صاحب أسفار إلى العراق والشام فأخذه معه وهو صغير ليتعلم السفر، فكان يتركه عند أصدقاء له من أهل البادية من آل حسين من شمر ومن ثم يذهب - أي الوالد - وحده للعراق أو للشام ثم إذا انتهى من ذلك كله مر عليه وأخذه راجعاً إلى بريدة، وذلك أنه ليس له ابن غيره، فكان أبي هو وحيد أبويه، وإنما كان له ثلاث بنات. ثم لما كبرت شجعني المطاوعة الذين قرأت عليهم في صغري».

رحلة العلّامة العبودي تستحق أن توثّق وأن تدرّس. مئات الكتب قدمها للقارئ في المعاجم والرحلات واللغة والمأثور الشعبي. إنه حالة فريدة، عاش مائة عامٍ مكللة بالتأليف وخدمة المعرفة ورفقة الكتاب.

arabstoday

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

GMT 06:11 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

اكتشافات أثرية مهمة بموقع ضرية في السعودية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العلّامة العبودي قصّة قرنٍ من الإبداع العلّامة العبودي قصّة قرنٍ من الإبداع



إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 22:02 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتجديد المنزل في فصل الشتاء
 العرب اليوم - أفكار لتجديد المنزل في فصل الشتاء

GMT 02:02 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

أردوغان يؤكد أن الأمم المتحدة عاجزة عن حل الصراعات في العالم
 العرب اليوم - أردوغان يؤكد أن الأمم المتحدة عاجزة عن حل الصراعات في العالم

GMT 11:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يستهدف تجمعات إسرائيلية وإطلاق 30 مقذوفاً من لبنان
 العرب اليوم - حزب الله يستهدف تجمعات إسرائيلية وإطلاق 30 مقذوفاً من لبنان

GMT 10:04 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا توضح أسباب غيابها عن رمضان للعام الثالث
 العرب اليوم - شيرين رضا توضح أسباب غيابها عن رمضان للعام الثالث

GMT 06:28 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29
 العرب اليوم - غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29

GMT 05:45 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

علاج جيني مُبتكر يعيد السمع والرؤية لمرضى متلازمة آشر 1F

GMT 12:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

قمة الرياض: أمن الإقليم مرتكزه حل الدولتين

GMT 02:18 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

قرن البولندي العظيم (الجزء 1)

GMT 12:03 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

روجينا تكشف عن تفاصيل مسلسلها الجديد رمضان 2025

GMT 09:36 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزال بقوة 5.1 درجات يضرب جزر ماريانا غرب المحيط الهادئ

GMT 22:02 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار لتجديد المنزل في فصل الشتاء

GMT 07:54 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

حميد الشاعري يكشف تفاصيل بيع بصمته الصوتية

GMT 13:50 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

أبرز موديلات ساعات اليد لإطلالة مميزة وراقية

GMT 02:04 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

الرفاق حائرون... خصوم ترمب العرب

GMT 11:54 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

GMT 13:54 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ساعات اليد الرجالي وطرق تنسيقها مع الملابس

GMT 02:14 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

الوفاء غائب ولغة التخوين والحقد حاضرة

GMT 07:41 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مجلس الأمن يصوت على مشروع قرار يدعو إلى وقف النار في السودان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab