بقلم : فهد سليمان الشقيران
أخذ مفهوم السعادة بالمعنى الفلسفي حيّزه في البحث؛ فهو جزء من الأسئلة الكبرى التي يواجهها الإنسان بالحياة، لذلك نجد تعريفاتٍ عديدة لها، منذ فلاسفة الإغريق وحتى كانط وديفيد هيوم ونيتشه، وغيرهم، وممن كتب في السعادة الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل، تحت عنوان: «انتصار السعادة»، وسأتطرق لأبرز مضامينه في هذه الكتابة، تتميماً لمقالاتٍ سابقة كتبتها حول مفهوم السعادة وابتذاله في الكتابات والإعلام، واختصاره بأطروحات آيديولوجية.
لذلك يكتب راسل في التوطئة: «لا يتوجه هذا الكتاب إلى الناس العلماء، أو إلى أولئك الذين يرون في مشكل عملي مجرد موضوع للثرثرة. في الصفحات اللاحقة، لن يجد المرء فلسفة عميقة، أو إلماماً ممتداً. وإن هدفي الوحيد كان جمع بعض الملاحظات المستلهمة مما أعتقد أنه العقل. إن الاستحقاق الوحيد الذي أطالب به للصيغ المقدّمة إلى القارئ يكمن في كونها مؤكدة من خلال تجربتي وملاحظتي الخاصة، اللتين أثْرتا سعادتي في كل المرات؛ حيث تصرفت طبقاً لها. لهذا أجرؤ على الأمل في أن بعض الأشخاص من بين كل هؤلاء الرجال والنساء الذين يعانون من دون رضاء في معاناتهم، سيجدون تشخيص حالتهم ووسائل معالجتها. إنما بالاقتناع بأن كثيراً من الناس ممن هم تعساء، يمكن لهم أن يجدوا السعادة بفضل جهد حسن التوجيه، أن كتبت هذا الكتاب».
ما هي السعادة عند راسل؟!
«إن الحيوانات سعيدة طالما كانت في صحة جيدة، ولها ما يكفي للأكل. ونحن نشعر أن الكائنات البشرية يجب أن تكون كذلك أيضاً، ولكن ليست الحالة عينها بالنسبة للأغلبية، في عالمنا الحديث. ولو أنك أنت نفسك تشعر بأنك تعيس، فمن المحتمل أن تكون جاهزاً تماماً لتقبل أنك لست الاستثناء. وإذا كنت سعيداً، فتساءل كم من أصدقائك سعداء أيضاً. وعندما تمر برحاب أصدقائك، حاول أن تتملك فن القراءة على الوجوه؛ كن منفتحاً على تدابير أولئك الذين تلتقيهم في الحياة كامل الأيام».
من الممكن اعتبار تعريف السعادة ينطلق غالباً من تجربة شخصية، لذلك يمكن أن تكون في النرجسية، أو الحب، أو المال، ولكن لكل شخصٍ تجربته ومن ثم مفهومه عن السعادة. مصطفى النشار ألف كتاباً مفيداً بعنوان: «فلسفة السعادة» كتب في تقدمته: «تساؤلات كثيرة أخذت تترى على عقلي، كان أبسطها أنني أصبحت أصدق رؤية لوتشيانو فلوريدي، ذلك الفيلسوف المعاصر الذي يرى أننا نعيش بالفعل عصر الثورة الرابعة، وأن مواطنتنا أصبحت مواطنة افتراضية، وأننا أصبحنا نعيش كعقول وكأجساد شفافة في ذلك العالم الافتراضي من المعلومات المتدفقة، من دون أن ندري مصادرها، ولماذا هي، وإلى أي غاية تقودنا، وكيف يمكننا التحكم فيها! وما هي طبيعة الخير منها، وما هو وجه الشر فيها! على كل حال، لقد أفقت من كل هذه التساؤلات لأعود إلى نقطة البداية التي ينبغي أن تكون بالفعل، ألا وهي: أنه مهما كانت التطورات التكنولوجية التي نعيش فيها، فإنها لا ينبغي أن تحجب رؤيتنا الثاقبة حينما نتساءل: مَن نحن؟! وما الذي يسعدنا حقاً بوصفنا بشراً لنا أجساد مادية، ولنا أرواح قادرة على التحليق بعيداً عن هذا الواقع المادي؟! إن العودة إلى الأصل والتساؤل عن الطبيعة الحقة للإنسان أياً كانت طبيعة التطورات التي عاشها ويعيشها في هذه الحقبة الزمنية أو تلك، هو التساؤل الجدير بالإشارة إلى الصورة الحقيقية التي ينبغي أن نتوصل إليها للسعادة الإنسانية. ولا شك أن هذه الصورة لها مسلَّماتها التي لا يخطئها عقل متأمل، يبحث عن الحقيقة وسط كل هذه الظروف المعقدة والتطورات التكنولوجية المتلاحقة، والفراغ الفضائي اللامحدود. وهذه المسلَّمات هي:
1- أننا بشر نتميز عن غيرنا من كائنات هذا العالم، بامتلاك العقل والقدرة على الفهم والاكتشاف والتفسير والتطوير في حياتنا على مر الزمن.
2- أن الإنسان الفرد لا يمكن أن يحيا وحده، ومن ثم فعلى علاقته بغيره يُبنى الكثير من أوجه السعادة التي يشعر بها.
3- أننا في هذا العالم لنعمر لا لنخرب ويتحكم كل منا في الآخر؛ بل إن التعمير يقوم على التعاون بين البشر والتشارك في الفعل وفي جني الثمار.
4- أن أساس الاجتماع البشري نابع من ثنائية الذكر والأنثى، الرجل والمرأة، فبهما يبدأ الاجتماع البشري من مجتمع الأسرة إلى مجتمع الدولة.
5- أن الأساس الحقيقي لاجتماع البشر، سواء في علاقة الرجل بالمرأة أو في أي علاقة ثنائية أو متعددة الأطراف، يقوم على الحب وليس على الصراع.
6- ومن ثم، وبناء على ما سبق، فإن السعادة ليست فعلاً فردياً؛ بل هي فعل تشاركي، فكما أن الآخر –على حد تعبير الفلاسفة الوجوديين وخصوصاً سارتر– يمكن أن يكون الجحيم، فهو أيضاً يمثل -إذا قامت علاقتنا على المحبة والتعاون- الجنة الحقيقية بالنسبة لي.
7- أن ثمة أفقاً للسعادة البشرية لا ينبني على علاقة البشر ببعضهم بعضاً؛ بل ينبني على علاقة إيمانية شديدة التأثير في حياتهم، هي علاقة الإنسان بخالقه ومبدع هذا الكون. إنها تلك العلاقة الربوبية التي تُشعر الإنسان كفرد وكجماعة بالطمأنينة والسلام الداخليين. ويبعد الإنسان عن شبح القلق والخوف بقدر ما يدرك طبيعة هذه العلاقة الشفافة التي يرتبط فيها الجزء بالكل، الوجود الجزئي بالوجود الكلي، الإنسان بالإله. إن هذا هو الأفق الإيماني للسعادة. إنها السعادة الروحية التي لا يعرفها إلا مَن جرَّب العيش وفقاً لها».
مفهوم السعادة يتطوّر مع الخبرة والسنين، وحين نحصر مفهوم السعادة لدى كل فيلسوف، نجد أن لكلٍّ تعريفه، انطلاقاً من التجربة الحيوية التي عاشها، ويشهد على ذلك ما كتبه برتراند راسل، إذ لم ينجح في الحديث عن السعادة من دون التطرق لسيرته الذاتية.