بقلم : فهد سليمان الشقيران
قبل عقدين كتب الأستاذ محمد عابد الجابري سلسلة مقالاتٍ تحدث فيها عن العقلانية والديمقراطية؛ طُبعت لاحقاً في كتابٍ تحت عنوان «الديمقراطية وحقوق الإنسان»، فيه نافح الجابري عن الديمقراطية مقابل الحديث عن عقلانية سياسية، وما كان مرتاحاً لمفهوم العلمانية، نشب نقاشٌ مطوّل حينها، بين من يعدّ الديمقراطية شرطاً للعلمنة، وفريقٍ آخر يرى العلمانية مفهوماً يمكن تبيئته حتى في الأنظمة غير الديمقراطية؛ ذلك أن العلمانية لا تتدخل بمستوى انتشار الدين أو انحساره، وإنما تتعامل مع ثقافة المجتمع ككل، سواء كانت ثقافة دينية، أو قبلية، أو عرقية. صحيح أن العلمنة مفهوم مناهض للكنيسة، لكن هذا من حيث نشأته وتسبيب العلمنة بالدين أمر ينقض وظيفة المفهوم من جذره.
في تعليقه على ظهور كتابه «تشكيلات العلماني» عام 2003، يقول الأستاذ طلال أسد على المعنى «لقد حاولْتُ فيه النظر في أسئلة ذات حساسية، بالتجربة، وبالمفاهيم الضمنية، التي تتبطَّنُ وتسري في ذاك الموضوع، وتُوجِّهُ مفاهيم العامة والجمهور عن الحقيقة. وقد نظرتُ في ذلك الكتاب في النظرية السياسية للعلمانية ذاتها، كما نظرتُ في علمنة القانون والأخلاق في الدول الحديثة، وهذه جميعاً أسئلة ومسائل معقَّدة. وإنني لأظنُّ أننا لا نفهم تماماً ماذا تعنيه تأثيرات أشكال العلمانية اليومية بالنسبة للسياسات. وأحسب أنه يكون علينا النظر بعمقٍ في هذه المسائل في المجتمعات الإنسانية، أكثر مما فعلْنا حتى الآن». فــ«العلمانية باعتبارها نظرية سياسية أجدُها شديدة الاتصال بتكوين الدين ذاته، مثل (الآخر) في العقيدة الدينية. وبشكلٍ عملي، فإنّ الدولة العلمانية - التي من المفترض أنها منفصلة عن الدين تماماً - يكون على قانونها أن يحدِّد مرة ثانية وثالثة، ما هو (الدين الأصيل والأصلي)، وأين ينبغي أن تكون حدوده. وبكلماتٍ أُخرى؛ فإنّ الدولة ليست ذلك الكائن المستقلَّ تماماً؛ بل على العكس، لا يمكن فصل السياسات المعاصرة عن الدين كما تحاول العلمانية الشعبوية أن تزعُم؛ بل هناك ضرورة عملية أن تبقى للدين ذاتياته، وأن تبقى له سياساته. أمّا الدولة (الكائن السياسي) فمن ضمن عملها تعريف وتحديد الوجه العامّ المقبول للدين».
يمكن للعلمانية أن تتواءم مع مجتمعات مسلمة، فثمة دراسات تتناول العلمانية في المجتمعَين التركي، والتونسي، والأمر يتعلق بمدى تجاوز المفكرين للربط بين الحداثة بمعناها العام والواسع وبين العلمانية بوصفها مجال تبويب للمؤسسات وتنظيم لها.
فالعلمانية توصيف تقني لعمل الدولة والمؤسسات في المجال العام. يطرح الأستاذ أسامة بوجبارة نظرية نشرها في مجلة «حكمة» خلاصتها، أن «انبعاث السياسة الدينية الحديثة جاء نتيجة لتعثر سياسة التنمية الاقتصادية، وبالتالي تقوم بعض المجتمعات ببث شكواها باستخدام (لهجة) دينية أو ثقافية، أو بحسب كارل ماركس عندما عبّر عن الدين باعتبار أنّه (كاهن مضطهد). يقتبس جون سكوت مقولة وردت في كتاب (النظر إلى المذاهب الاقتصادية) ما نصه (تنشأ المذاهب الاقتصادية أو تتضح وضوح الشمس في أوقات الكوارث... ولكن يجري إدراك الكارثة باعتبارها كارثة الهوية بواسطة أولئك الذين يخشون خطر الانقراض كشعب أو الانجراف في خضم ثقافة متشابكة تعمل على تقويض وصهر المعتقدات كافة ركضاً خلف التجانس)». وباختصار، فإن «حالات الانبعاث الديني ليست إلا ترجمة لسياسة اقتصادية فاشلة، والعكس صحيح، أي أن تقويض الهويات الدينية فيما يقابل الهويات الوطنية أو القومية رهين بنجاح سياسات الدولة الاقتصادية».
على الضفة الأخرى، نعثر على طرح أوليفيه روا الذي يكتب تحت عنوان «قوس الدولة الإسلامية وخلق فضاء علماني»، يجيب عن سبب الرفض للعلمانية من منظوره هو؛ إذ يقول «إن تاريخ العالم الإسلامي يظهر أن السلطة كانت دائماً علمانية وغير مقدسة، غير أن إعادة الأسلمة في القرن العشرين شككت في التوازن بين السياسة والدين نتيجة إعادة قراءة للإسلام (الإسلامية والأصولية الجديدة) التي تتراءى لنا كأنها عودة للأصول ولكنها في حقيقة الأمر هي أدلجة للدين، فالإسلامي والأصولي إذا أكدا ضرورة الرجوع إلى زمن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) فهما أول من سيقول بأنه لم توجد أي تشكيلة سياسية في العالم الإسلامي تطابق الدولة الإسلامية الحقيقية، فمشكل الدولة إذن هو مشكل عصري تشكل على أساس نموذجين:
أ - إعارة جهاز دولة علماني وسلطوي على النمط الأوروبي، إما تحت نموذج استبدادي متنور منذ القرن التاسع عشر (محمد علي في مصر) ثم مع مصطفى كمال أتاتورك ورزا شاه في القرن العشرين، أو تحت أنظمة من النمط الفاشي أو الاشتراكي (الحزب الواحد أو الزعيم الروحي أو دور مصالح الأمن والجيش... إلخ) من الناصرية إلى البعثية مروراً بجبهة التحرير الجزائرية، وهذه الأنماط من العلمانية السلطوية لم تستطع إطلاقاً أن تتبنى الديمقراطية باستثناء تركيا.
ب - الدولة الإسلامية: التي أنتجها تحول معين للإسلام في قالب آيديولوجيا سياسية تحت التأثير الواسع لفلسفة السياسة الأوروبية، حيث الدولة هنا هي التي تصوغ المجتمع.
وبخصوص الدول العلمانية السلطوية، فإن المطالبة الشعبية بالدولة الإسلامية ظهرت بالتحديد كمطلب احتجاج للمجتمع، وكبحث عن أصولية، خاصة إذا فقدت هذه الدول شرعيتها المناهضة للإمبريالية والوطنية (مصر بعد عبد الناصر والجزائر بعد بومدين).
إن رفض العلمانية هو تعبير عن رفض نظام، والأمل في أن مستقبل النظام سيكون تحت رقابة قانون لن يكون هو قانون الرجال، وبالتالي سيقضي على الارتشاء وعلى كل سلطة شخصية؛ الأمر لا يتعلق فقط باحتجاج مجتمع تقليدي وإنما على العكس بإرادة امتلاك للدولة من أجيال جدد تولدت من التحولات الناتجة على مستوى الدولة: طلاب ومجتمع حضري والتكنوقراطيين».
ذلك قول أوليفيه روا، والأقرب أن رفض العلمانية له سببان اثنان؛ الأول: طبيعة الطرح العربي لمفهوم العلمانية؛ إذ يربط بإزاء رحلة التنوير وأسس الحداثة وبداية تشكل دولة ما بعد هيمنة الكنيسة، هذا شكّل غطاءً تاريخياً غاية في التضليل والتبخيس لمفهوم العلمانية الذي يجب علينا تناوله بمعزلٍ عن تضخيم تاريخه. والآخر: طبيعة تناول المفكرين للمفهوم بوصفه ضد الدين، وهذا التفسير قدم هدية للحركات الأصولية وتمكنت من تكريه المسلمين بالعلمانية وكأنها بديل عن الدين أو قوة ضد الدين.
الخلاصة، أن مفهوم العلمانية يمكن تبيئته من دون دولة ديمقراطية، وأن «الديكتاتورية» التي تلصق بتجارب العلمنة لدى المسلمين (تجربة أتاتورك بتركيا/ والحبيب بورقيبة بتونس) فيها الكثير من التجني والانتقاص، وطلال أسد ممن ينتقص هاتين التجربتين ويحاجج بفكرة «الديكتاتورية»، وهذا أمر لا ينصف التجربة ولا يحرر مفهوم «العلمانية» من تاريخيته.