بقلم : فهد سليمان الشقيران
كان الفيلسوف الراحل بودريار يصف أميركا بأنها مثل بلدة سينمائية لا مثيل لها. وبعد الأحداث الحاليّة يمكن وصف لبنان بأنه بلد سينمائي مملوء بالتناقضات. من أقصى الحيويّة إلى أقصى الحروب، وبين هاتين النقيضتين بضعة أمتار. لا يبعد شارعا الجميزة ومار مخايل عن الضاحية الجنوبية لبيروت كثيراً، ولكن بينهما بون اجتماعي شاسع. ويمكنك أن تعيش سعيداً في منطقةٍ بينما ربما تهلك وتلقى مصرعك في منطقةٍ أخرى، وهذا التركيب المتناقض العجيب سوسيولوجياً وجغرافياً ودينياً وثقافياً لا مثيل له في الإقليم. ولو تأملنا الظاهرة بالمعنى الفينومولوجي فإنني أذكِّر بمفهوم الوعي عند إدموند هوسرل: «كل وعي هو وعيٌ بشيء ما»، فإن اللحظة الأولى هي الأساس، وهذا ما كان يجب التركيز عليه.
بعد التحوّل المحوري في الإقليم، وانكسار محور الشر، وظهور سياساتٍ معيّنة، فإنه يمكن للبنان الاستثمار في هذا التحوّل الكبير والبناء عليه. وما كانت زيارة رئيس الجمهورية اللبناني جوزيف عون، للسعودية عادية، وإنما إيجابية ويمكن البناء عليها مع حصر ودرس المخاطر، وأحسب أن الأسس الفنّية على المستويات الاقتصادية والسياسية والأمنية يمكن تبويبها بهذه النقاط:
أولاً- البدء بمشروع إصلاحي، والذي تحدّث عنه الأمير فيصل بن فرحان، ومن لبنان. من دونه فإن الدول التنموية والحيوية لن تتوجه نحو بيئةٍ غير صالحة للاستثمار، وصعبة الاستهداف. خصوصاً أن الإقليم يمرّ بمرحلةٍ رؤيوية كبرى تتعلق بالازدهار والأفكار المدنيّة الصاعدة، خارج إطار الطائفية والمعاني العصبية، والنعرات التاريخية. من دون هذا الخروج من مآزق الطائفية يصعب على لبنان أن ينسجم مع المستوى الخليجي الصاعد، بل ربما يجعله أكثر قرباً من محاور أخرى لن تفيده بشيء.
ثانياً- المواضيع الأمنية العالقة، وبالتحديد التنظيمات الإرهابية والمافيوية، التي كانت تهاجم الخليج بالصواريخ والشتائم والأقوال المتطرفة، وتدعم تنظيماتٍ دولُ الخليج على حربٍ معها مثل تنظيم الحوثي. هذا التحديد ضروريٌّ حسمُه والانتهاء منه، بالإضافة إلى القضاء على تهريب المخدرات وغرسها بين الفواكه أو غيرها، واستعادة فرص التصدير التي منعتها السعودية بسبب ذلك الاستهتار بالأمن القومي. إن الاستهتار بسيادة لبنان من «حزب الله» وبأمن الخليج كان مرعباً خلال السنين الفائتة، والصمت الدبلوماسي كان مثيراً للاشمئزاز، بسبب فشل العهد القديم.
إن التعويل الحقيقي اليوم والمبشّر بالخير يكمن في عهد الرئيس جوزيف عون، وفي خطاب القَسَم المتميز والصارم بُعيد انتخابه، والذي بات نبراساً وسيجري تنفيذه.
ثالثاً- أحسب أن إنهاء حالات المغامرات في الإقليم ككلّ بات ضرورةً ملحَّة. فالموضوع الإنساني أنهك الطاقة السياسية في المنطقة. إن التقوّي على دولٍ لديها عُدّةٌ استخبارية وعسكرية وسياسية وأمنية، وتمتلك من السلاح ما لا طاقة للفئات المعتدية بمعرفته أو التنبؤ به، يجب أن يكون من الماضي. المشهد اليوم يتطلّب مزيداً من الواقعية السياسية، ثمة جغرافيا محيطة يجب أن يُتداول موضوعها الموجود عبر أسس السلام والحوار والنقاش والتفاوض.
رابعاً- لا بد من إدراكٍ ضروري إقليمي لأن الدول تضع الفرص، وهذا أمرٌ طبيعي، ولكنها ليس لديها مزيد من الوقت ولا مجال لمضيعته بالترف أو التلاعب أو الفساد. وسياسات الاستغباء أو الاستبسال على دول الجوار لم تعد مجدية. ثمة مسؤوليات على كل الدول التي تريد التعاون أن تنتهجها؛ من المستحيل لبلدانٍ لم تحل مسائل الكهرباء والمياه والصرف الصحي منذ قرنٍ من الزمان أن تكون مفيدة إلا بالنمو. الدول التنموية تودّ أن تكون مصالحها مع الدول العظمى، نعم لن تتخلى دول الخليج عن المساعدات الإنسانية، وإنما يجب أيضاً على الكل الدخول في قطار التنمية الكبير الذي سيفيد المنطقة كلها ويعود عليها بالنفع، ولكن ضمن شرطين: عدم الفساد، والدخول بالمنظومة العربية مجدداً كما كانت معظم دول الإقليم في الماضي.
الخلاصة؛ أن التحوّل الحالي لا شك أنه يحمل في عمقه تهديداتٍ معلومة، ومخاطر مرصودة، ولكن الأساس هو العمل على الخروج من الأنفاق إلى الآفاق. وزيارة الرئيس جوزيف عون، وهو مبادر ومنهجيّ في تأسيسه السياسي القادم، إنما تعبِّر عن حيويّة نحو التنمية والانضمام نحو رحلة التنمية العملاقة، وتصريحاته بعد لقاء ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إنما تعبّر عن رغبة حقيقية في مواكبة هذا النموّ الاقتصادي والتنموي الصاعد الذي انبهر به العالم كله.