بقلم : فهد سليمان الشقيران
اهتمّ الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط بموضوع «السلام الدائم» منطلقاً من تأسيسه المعرفي للأخلاق؛ وقد ساهم في تفعيل وتسريع الاتفاقيات الأممية مثل تأسيس عصبة الأمم. تأثر راسل بدعوته حين اهتم بإيقاف جنون استعمال القنبلة الذرية، وكانت له مراسلات مع الملك فيصل بن عبد العزيز الذي تجاوب مع مبادرة الفيلسوف.
ومن قبل تأثر هيغل بنظرية الصراع الخلّاق، منسجماً مع الديالكتيك كما يعبّر عنه مفهومياً. كما تأثر نيتشه بضرورة الحرب لخلق أجيال أخرى أكثر تفوّقاً منطلقاً من اهتمامه المبكر بهيراقليطس. نيتشه بدا منهاراً في شبابه أمام فلسفة هيراقليطس وآية ذلك ما كتبه عنه في كتابه: «ولادة المأساة»، فالحرب عند هيراقليطس هي «ربّة الأشياء».
هيغل كان معجباً بنابليون وحين رآه عام 1806 على حصانه وهو يتجول بين جنده بعد انتصاره المبين على بروسيا قال كلمته الشهيرة: «لقد رأيت المطلق؛ روح العالم يمتطي صهوة جواده».
ونظرية الحرب تجددت وتفرّعت في الفلسفة بين نزعات الأخلاق والمثل، وبين التسييس المحض، أثبتت تجارب البشرية أن الحرب جزء من الحيوية البشرية، فالحرب تخلق عوالمها الجديدة، إنها وسيلة مهمة لتأسيس واقعٍ جديد، ولكنها ليست غاية استئصالية على الطريقة النازية، ليست صدفةً أن يتأثر المنظّرون الأوائل لـ«الفوضى الخلاقة» في السياسة الأميركية بفاتيمو وفوكوياما وهنتنغتون، فمرجعيتهم الكبرى تعود إلى نظرية هيغل.
سبق أن نشرت مجلة «حكمة» بحثاً مهماً، أشرك القارئ بخلاصته لتعميم الفائدة، المبحث نشر تحت عنوان: «مستقبل الحرب» من تأليف أونابيلي ميندوكا كاي هيرفي، وترجمة ياسين إدوحموش.
وبتصدير المبحث هذه الجملة المصحوبة بسؤال: «الحروب بأمانة كما نتخيلها: دول ضد دول، وجيوش ضد جيوش، وقوتان معاديتان لبعضهما. هذا المفهوم للحرب هو من مخلفات حرب الثلاثين عاماً، واستمر لما يقرب من أربعة قرون. لكن التاريخ ليس ثابتاً ويتطور. وكذلك الحال مع طابع الحرب، على الرغم من أن طبيعتها تظل ثابتة. هذا يعني أن الحروب المستقبلية من المحتمل أن تكون مختلفة عن تراث ويستفاليا. وبالتالي، فإن هذا يثير الأسئلة التالية: هل ستكون الحروب المستقبلية مختلفة عما عرفته البشرية في القرون الثلاثة الماضية؟».
يقارب المبحث الإجابة بهذه الخلاصات:
أولها: «الحرب هي سياسة، والحرب نفسها هي عمل سياسي». بالنسبة إلى كلاوزفيتز، فإنها مجرد استمرار لممارسة السياسة بوسائل أخرى، ويصفها صن تزو بأنها فن ذو أهمية حيوية للدولة. يشترك التعريفان الأولان في كلمة السياسة، ويفضل الثاني بدلاً من ذلك كلمة الدولة. مصطلح السياسات والسياسة في التعريف أعلاه هو إحدى الطرق التي تعبر بها الدول عن نفسها. لذلك، يمكن للمرء أن يستنتج مما سبق أن الحرب هي فعل يمكّن الدول من حل النزاعات، ويصفها ماو بأنها سياسة مع إراقة دماء. وخلاصة كل هذا أن الحرب كما نعرفها من الأفلام وكتب التاريخ المعاصرة هي طريقة سياسية وحشية وعنيفة تعمل الدول من خلالها على حل المشاكل. غير أن هذا التعريف يشير بشكل أساسي إلى النزاعات التقليدية، وغالباً ما ترتبط بالدول وتقف في طليعة الاشتباكات العسكرية لأكثر من ثلاثة قرون. في الحقيقة يرتبط تاريخ الحروب التقليدية بتاريخ الدول، وهي نتيجة مباشرة لاتفاق ويستفاليا عام 1648. لقد أنشأت معاهدة ويستفاليا نظاماً عالمياً جديداً تعد فيه الدول الحكام الوحيدين».
وثانيها: «إذا كانت لا تزال أمامنا حروب يكون طرفاها الدول بعض الوقت، فلن تكون الدول الجهات الفاعلة الرئيسية في الحروب المستقبلية. في الواقع، في حالة الاضطراب الدائم، لن يكون المجتمع الدولي قادراً على حماية الأبرياء (كما هو الحال في العراق وأوكرانيا)، وسيشهد المرء تناقص وزن سلطة الدولة. على سبيل المثال، في عام 2014، بعد خروج الولايات المتحدة من العراق، الذي تحول إلى دولة منهارة، رجح وضع الدولة الضعيف صعود (داعش) في العراق وسوريا. في نهاية المطاف، (تم ملء الفراغ في السلطة الذي خلفته الدول المنسحبة من قبل المتمردين، والخلفاء، والشركات، ودول المخدرات، وممالك أمراء الحرب، وأسياد المرتزقة، والأراضي المقفرة). وفي سياق فقدان الثقة في نظام ويستفاليا وتنامي الاضطراب الدائم، ستفقد الدول شرعية العنف المشروع، وستقوم الجهات الفاعلة الجديدة بتوظيف المحاربين أو المرتزقة لشن الحروب نيابة عنها، وأي سبب سيكون جيداً بما يكفي لهؤلاء الفاعلين الجدد لشن الحروب، سواء لكسب المال، والكفاح من أجل المعتقد أو الانتقام ومن أجل القبيلة».
ثالثها: «وفي هذه الساحة الجديدة، ستشترك الدول في حق شن الحروب مع الجهات الفاعلة من غير الدول، وستعود المرتزقة للظهور إلى الواجهة، ولن تكون التكنولوجيا ضماناً لتحقيق النصر، وستساعد سياسة الإنكار الدول على شن الحروب وإنكارها، ولن يحترم أحد قواعد التسلح؛ سوف يسود والسلام والحرب في آن واحد، وسيصبح الردع النووي من خلال الدمار المؤكد المتبادل من الماضي، وأفضل الأسلحة لن تطلق الرصاص، وستكون الحروب التي تشنها الأطراف غير التابعة للدول موجودة، وسيكون النصر قابلاً للاستبدال. إن الأمر عائد للقادة والخبراء الاستراتيجيين اليوم لتوقع بداية عصر العشوائية ولأن يكونوا على أهبة الاستعداد، وعدم التفكير بشكل استراتيجي في مستقبل الحرب والتكيف معها يشكل تهديداً وجودياً لدول اليوم، والتعليم الاستراتيجي في عالم ما بعد ويستفاليا، كلها تعد بداية الاستعداد لتلك الحقبة المظلمة».
من هنا أتفق مع ما ورد في البحث بالمجمل؛ الحروب التقليدية تفرّع عنها حروب سيبرانية، وأخرى تقنية، وليس انتهاءً بالضرب الثقافي كما هي الحرب القيمية اليوم على كافة المستويات بين الشرق والغرب، والحرب القيمية والثقافية بين الصين والغرب وعلى رأسه أساس الثقافة الغربية التقليد الأميركي. أما عن استعمال المرتزقة بالحروب، فقد رأى العالم أثره في تمرد «فاغنر» الذي بيّن أن استئجار القيم غير مثمر، ومن الصعب إقناع القاتل المأجور بصدقك، إنه يريد منك توفير عمل له مقابل المال، صحيح أن إدماج المرتزقة في سياسات الحروب يعد من التحولات التي فتتت مفهوم «الحرب التقليدية»، لكن أثره سيكون وخيماً. الحرب هي الحرب، مثل قديم عرفه البشر، والحرب لها ثمارها حين تكون مدروسة كيف تبدأ وكيف تنتهي، لكن حين تتحوّل إلى غاية من دون استثمارها لتحسين شروطٍ محددة فإن أثرها ينعكس على الداخل، وهذا ما حدث مع روسيا مؤخراً.