من المعروف أن «الإخوان» يعتمدون على استراتيجيتَين؛ الكمون والظهور، أفكار ليست من إبداعاتهم. وعملت عليها التنظيمات القديمة حتى الشيوعي منها، بل ويستندون إلى أدلةٍ شرعية لتبرير الظهور والاختفاء.
مرحلتنا هذه تمثل لهم تحدياً كبيراً. وآية ذلك الخليّة التي كُشفت في الإمارات وعدد أفرادها 84 شخصاً جلهم من المنتمين لجماعة «الإخوان المسلمين».
إنه الكمون الأخطر، الذي تصرّ الجماعة على تطبيقه منذ سحق مجنديها ومنصاتها على السطح قبل 10 أعوام.
بهذا الظرف أستند إلى كتابٍ مهم صدر عن مركز «المسبار» بعنوان: «مناورات الإخوان: كمون العنف ومكائد التجنيد والاختراق» فيه درسٌ وتقصٍ عن سبل تكيّف الجماعات المتطرفة مع التحولات السياسية؛ فيبحث في عناصر بقاء التنظيمات، وآلياتها المبتكرة لتجنيد متعاطفين معها، والاستثمار في الظرف السياسي والمظالم المفترضة. يلاحظ الكتاب آليات تهيئة الخطاب الثقافي والديني والمؤسساتي عبر واجهات تخدم أفكارها، وتشكيل مؤتمرات وكيانات عابرة للطوائف تسهم في تطويرها، واستغلال الفضاء الديني لتثوير المجتمعات المسلمة في أميركا وأوروبا، عبر ربطها بقضايا التنظيمات وتحريضها على الوفاء لدولها. وتناول الكتاب جزءاً من الرؤية الفلسفية الأوروبية للعنف الأصولي الجديد، بين الأنسنة التي تقترب من التبرير إلى اجتهادات التفهّم ومحاولات التجاوز.
لماذا تجرب الحركات الإخوانية محاولة إدارة شكل بقائها في المجتمع؟!
يرى أحمد زغلول شلاطة في بحثه أنه يمكن الحد جزئيّاً من حدّة العُنف القائم وأنماطه وفق تعامل جزئي مع كل عُنصر عبر مسارين: بناء حزم برامجيّة مُتخصّصة، كل على حدة في إطار تنموي يناسب كل بيئة، ورفع وعي سكان تلك المُجتمعات المستهدفة بإشراكهم في أزمات بيئاتهم؛ للحيلولة دون انخراطهم أو تحولهم لبيئات حاضنة للعنف. ويتطلب ذلك استراتيجيات مكافحة متنوعة ومتطورة دورياً، بما يتناسب مع حالة نشاط التنظيم مع تحليل سياقات تلك الهَجمات وبيئاتها والعوامل المُغذّية. وهو ما يعمل على تجفيف مَنابع العُنف المُتجددة، مما يدفع بالتّالي نحو كبح جماح عُنفها دورياً، وبالتّبعية خَفض حدّة وكَثافة الهَجمات للحدود الدنيا.
ويدعو إلى التحديث المستمر لاستراتيجيات التعامل مع التنظيمات الإرهابية والاهتمام بتباينات البيئات المحلية، وهذا يتطلب إشراك الفاعلين الأمنيين المحليين، خصوصاً على حدود الدول التي تعدّ معابر للمُقاتلين والتنظيمات، وتطوير مهاراتهم وتحديث أدواتهم التكنولوجية، التي تُعينهم على إحكام الضّبط الحُدودي بصورة أكبر.
والخلايا السرية المترابطة دافعها دقة المنهج التجنيدي لديهم، هذا ما تشير إليه دراسة ماهر فرغلي، إذ يشرح بالتفصيل المنهج التجنيدي الجديد لدى جماعة الإخوان، وكيفية اختراقها المجتمع، وتقسيمها العناصر المستهدفة إلى فئات، ودور الجماعة والتنظيم في استغلال الظروف النفسية والاجتماعية للعناصر المستهدفة، ثم ترصد دراسته الآليات المباشرة وغير المباشرة في عملية التجنيد، والمحاضن التي تولدت عقب سقوط الجماعة سنة 2013، والوسائل المستحدثة في عمليات الاستقطاب.
يخلص إلى أن جماعة الإخوان اكتسبت مناهج الدعوة والاستقطاب والتجنيد من المؤسسين، وأولهم حسن البنا، وأدت خبراتها المتراكمة إلى تطوير المحاضن والوسائل، لكن مع عزلها من الحكم، دخلت في العمل السري معتمدة على التكنولوجيا الحديثة.
من ضمن أجندتهم محاولة أخونة المؤسسات الدينية، إذ رصدت دراسة أحمد الشوربجي، محاولات «الإخوان المسلمين» منذ تأسيس الجماعة في مصر سنة 1928 في اختراق الأزهر الشريف وتأسيس حضور ديني وسياسي فيه، فتبرز تاريخ هذه المحاولات وتأثيرها. ويقسمها إلى جزأين: أولاً: محاولات زرع عناصر في المؤسسات الدينية، يستعرض فيها طرق الاختراق التنظيمي والفكري التي تتبعها جماعة الإخوان المسلمين. ويسلط الضوء على طرق التمكين في الأزهر بعد عام 1952. أما ثانياً: التطويق والتطبيع، وبيّن كيف حدث تطويق وتطبيع عدد من كبار شيوخ الأزهر من خلال مؤسسات بحثية وعلمية إقليمية ودولية، أنشأتها أو أدارتها كوادر إخوانية عملت بكل دأب على تحقيق هذه الاستراتيجية من خلال استقطاب العقول. ويرى أن من أبرز المؤسسات البحثية والعلمية الإقليمية والدولية التي أنشأتها أو أدارتها كوادر إخوانية، وعملت بكل دأب على تحقيق هذه الاستراتيجية، كلية الشريعة القطرية، والجامعة الإسلامية بباكستان، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي بالولايات المتحدة الأميركية.
ويخلص إلى أن محاولة اختراق جماعات الإسلام السياسي للأزهر الشريف، سواء من خلال الأفراد أو الأفكار، قمة من قمم الخطر التي تواجه الدولة الوطنية، وتفرض عليها تحديات يمكن تحويلها لفرص، إذا ما سعت وساعدت على انطلاق قطار التجديد، الذي يبدأ أولى محطاته من محو أفكار الإسلام السياسي في عقل طالب العلم الشرعي وجعله قادراً على تفكيكها، ونقدها، وإحداث قطيعة معرفية معها، ثم يجري بعد ذلك إلى ما شاء الله من ترسيخ قيم الحضارة والبناء والتنمية والخير والسلام لصالح الأوطان والإنسان.
الخطر الموازي لما سبق محاولة أسلمة العلوم والمعارف، وهذا ما تتناوله دراسة سامح فايز، في درس محاولة أسلمة الثقافة في سبيل تمرير أفكارها، وتأطير العقل والوعي المصري، ويخلص في دراسته إلى أن معركة تزييف الوعي هي المعركة الأكبر، التي يضع التنظيم عليها كل أهدافه في المرحلة الراهنة، بعد أن عجز عن المواجهة المباشرة مع مؤسستَي الجيش والشرطة في مصر، وهي معركة ليست وليدة اللحظة، بل هي ذات جذور ممتدة منذ أيام حسن البنا، ثم ازداد تأثيرها بعد التأسيس الثاني للجماعة، منتصف السبعينات من القرن الماضي، وصعود نجم التنظيم الدولي للإخوان، والعمل على نشر نظرية «أسلمة المعرفة» وهي بالأحرى «أخونة المعرفة».
الخلاصة؛ أن اكتشاف تنظيم سري لا يعني أنه الأخير، بل خلف كل تنظيم يموت تنظيم يتخلّق ويتشكل. البعض من الطيبين يضيق بتكرار للحديث عن الإرهاب والإسلام السياسي، ويملّ من هذا الإيضاح المستمر، هذا شأنه ومن حقه ألّا يقرأ وألّا يتابع، ولكن من واجبنا الإلحاح الدائم والمستمر واليقظ والمترابط حول هذه التنظيمات الإرهابية الكارثية، بل والهجوم عليها مهما استمر زمن المعركة، ليملّ مَن يملّ، وليقنط مَن يقنط، ولكن هذه المعركة أساسية، ومتواصلة. إنها معركة أنصار الحياة بوجه ثقافة التفجير والتفخيخ والموت.