سياسات الحروب ودعوات العقلنة

سياسات الحروب ودعوات العقلنة

سياسات الحروب ودعوات العقلنة

 العرب اليوم -

سياسات الحروب ودعوات العقلنة

بقلم : فهد سليمان الشقيران

مستوى الارتباك الأممي جراء الحدث الدامي، أياً كان مستواه وأثره، يعبّر عن فجيعة مصحوبة بالاستغراب من مستوى تضعضع النقاش الأخلاقي، فضلاً عن عدم قدرة المؤسسات الأممية والمواثيق الدولية على وضع حد للصراع بين البشر والأمم.

إنه نقاش مفهوم جزئياً بوصفه خارج أروقة الأكاديميات، وإنما موقعه المجال العام، لكن ما يصعّب فهم الجزء الآخر منه مستوى الخيرية المفترضة لدى العموم بوصفها أصيلة وليست مكتسَبة.

إدغار موران فيلسوف معاصر مرموق ناقش موضوع «العقل المحطّم» والعقل المحطِم في بحث كبير من الجيد الاستئناس بخلاصته مع تطور الأحداث وهشاشة الإنسان أمام نزواته وصراعاته، هدف موران من البحث كله تأسيس عقل منفتح.

يعدّ العقلنة (La rationalisation) مستوى من إنشاء رؤية منسجمة كلية عن الكون انطلاقاً من معطيات جزئية؛ من نظرة جزئية، أو من مبدأ وحيد. وهكذا فإن رؤية من وجه واحد من الأشياء (مثلاً المردودية والفعالية)، والتفسير من خلال عامل وحيد (العامل الاقتصادي أو السياسي)، أو الاعتقاد بأن الشرور التي تعاني منها الإنسانية راجعة إلى علة وحيدة وإلى نوع واحد من العوامل، كلها مظهر من مظاهر العقلنة؛ إذ يمكن للعقلنة أن تقيم، انطلاقاً من قضية أولية عبثية تماماً أو استيهامية، بناء منطقياً تستنتج منه كل النتائج العلمية.

لذلك أنتجت مغامرة العقل الغربي، منذ القرن السابع عشر، أشكالاً من العقلنة (Rationalite) والعقلانية والتبرير العقلاني، في آن واحد، وبصورة غير متمايزة. العقلانية الكلاسيكية ونفيها يشكلان مع تطور العلم في الغرب في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر نوعاً من البحث عن العقلنة (بموازاة أشكال التفسير الأخرى). لكن هذا التطور يبدو أيضاً كأنه قطيعة مع التبرير العقلاني الأرسطي - المدرسي بواسطة التأكيد على أولية التجربة على التناسق المنطقي. كانت الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى تبريراً عقلانياً يحول دون اللجوء إلى التجربة؛ فإما أن التجربة تؤكد الفكرة، وبالتالي فهي غير مجدية، أو أنها تناقضها، وبالتالي فهي ضالة. إن الاكتساح الذي مارسه العلم كان نتيجة مجهود مفكرين تجريبيين وصوفيين في الوقت نفسه، مثل كبلر. والنتيجة الأولى للعلم هي نزع الصبغة التبريرية عن المعرفة بشكل واسع، هذه المعرفة التي كانت تعتمد إلى غاية ذلك الوقت على الأورغانون الأرسطي. يقول نيدهام: «لا يمكن أن نؤكد أن العقلانية كانت، على مدى التاريخ، القوة التقدمية الأساسية في المجتمع. من الأكيد أنها كانت كذلك في بعض الظروف، لكنها في ظروف أخرى لم تكن كذلك، كما هو الأمر في القرن السابع عشر في أوروبا مثلاً، حيث كان اللاهوتيون المتصوفون هم الذين يساعدون رجال العلم».

القوة التقدمية (يكتب موران) الأساسية في المجتمع، من الأكيد أنها كانت كذلك في بعض الظروف. «لكنها في ظروف أخرى لم تكن كذلك، كما هو الأمر في القرن السابع عشر في أوروبا مثلاً، حيث كان اللاهوتيون المتصوفون هم الذين يساعدون رجال العلم». وفعلاً فإن العلم قد تقدم في توتر مزدوج بين التجريبية والعقلانية، حيث كانت الأولوية المعطاة للتجربة تكسر نظريات العقلنة، لكن حيث تلا كل نزع للتبرير العقلاني مجهود جديد للفهم؛ مجهود يؤدي إلى محاولة جديدة لعقلنة الوقائع. لقد مكَّنت مظاهر التقدم التي أحرزتها الفيزياء في نهاية القرن الثامن عشر من تصور كون حتمي قابل كلياً للمعالجة الحسابية حيث يمكن لمارد نموذجي، كما تصوره لابلاس، أن يستنتج كل الحالات الحاضرة أو المقبلة للكون. ومنذ ذلك الوقت أخذت العقلانية تتوفر على رؤية للعالم تتضمن تطابقاً بين ما هو واقعي وما هو عقلي، وما هو قابل للإحصاء الحسابي، وهي عناصر أُقصي منها كل ما هو غير منتظم، وكل ذاتية. لقد أصبح العقل هو الأسطورة الكبرى الموحدة للمعرفة، وللأخلاق وللسياسة. ويجب على المرء من منطلق هذا المنظور أن يحيا تبعاً للعقل، أي أن يبعد نداءات الوجدان والاعتقاد. ومن حيث إن مفهوم العقل يتضمن مبدأ الاقتصاد، فإن الحياة، وفقاً للعقل، ستكون موافقة للمبادئ النفعية للاقتصاد البورجوازي. لكن المجتمع أيضاً يطالب بأن يكون منظماً، حسب ما يمليه العقل، أي حسب النظام والانسجام. إن مثل هذا العقل ليبرالي في أعماقه؛ فمن حيث إنه يفترض أن الإنسان عاقل بطبيعته، فإنه يمكننا إذن أن نختار لا فقط المستبد العادل، بل يمكننا أيضاً أن نختار الديمقراطية والحرية التي ستمكّن العقل الجماعي من أن يعبر عن ذاته، وستمكّن العقل الفردي من أن يزدهر. لكن سيتم بالتدريج تحلل التناسق الإنساني العقلاني والليبرالي الأكبر. إن عبادة العقل سترتبط بالأرض، وستصبح مصائر العقل والحرية قابلة للتفكك، وسيحدث على وجه الخصوص رد فعل الرومانسية تجاه العقلانية. لم تكن هناك فقط المقاومة التي يبديها الدين والوحي، بل ظهر أيضاً رفض للطابع المجرد وغير الشخصي للعقلانية. لقد قدم الكائن الإنساني ككائن وجداني وعاطفي (روسو) وكذات لا يمكن إرجاعها إلى أي شكل من أشكال العقلنة (كيركيغارد).

لما مضى؛ فالحياة لست «عاقلة» أو عقلية (شوبنهور ثم نيتشه). إن الرومانسية بحث فيما قبل العقل، وفيما بعد العقل. إن هذه الانتقادات الموجهة إلى العقلانية لا تزال قائمة. لكن نقداً جديداً، داخلياً، ينبثق من قلب العقلنة ذاتها. حسب هذا النقد المعاصر، يُدان العقل، لا فقط من حيث كونه مفرطاً في العقلانية، بل يُدان كذلك على أنه غير معقول. إن الأزمة الحديثة للعقلنة هي الكشف عن اللاعقل ضمن العقل.

الخلاصة أن البحث عن عقلنة شاملة لوجود الإنسان أو لمعارفه أمر مستحيل التحقُّق، والخطاب العمومي السائد اليوم مع الأحداث وشدّتها يعبر عن رغبة محمومة بالإبقاء على العيش المشترك بين بني الإنسان من دون أي حروب. إنها فكرة عقلنة تصرف الإنسان، ومنها محاولات كانط وراسل، ولكن ضغط الحدث وفوضوية النزعات وتشظّي الصراعات تثبت لنا أن الضبط المنشود لدوافع الحرب لن يحدث. الإمكان الوحيد أن تسعى المؤسسات الأممية لتخفيف احتمالات الحروب، ولتكثيف الحوار والنقاش والتفاوض بدلاً من استخدام آخر الأدوية، وهو «الحرب».

arabstoday

GMT 08:32 2025 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

مذكرات هاشم فؤاد!

GMT 08:24 2025 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

لا مَنّ في مجلس الأمن ولا سلوى... ولكن

GMT 08:23 2025 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

من طرائف الموضوع

GMT 08:21 2025 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

في اليوم العالمي للفلسفة: في البدء كانت الحكمة!

GMT 08:15 2025 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

«ثريا حبي» ترنيمة عشق وبهجة!

GMT 08:13 2025 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

وقرر مجلس الأمن

GMT 08:10 2025 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

حين تشرق الثقافة من «الشارقة»

GMT 08:05 2025 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

حوار الطبقة الوسطى؟!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سياسات الحروب ودعوات العقلنة سياسات الحروب ودعوات العقلنة



العبايات بحضور لافت في أناقة الملكة رانيا

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:07 2025 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

خمسة مواقع لا تُفوَّت لمشاهدة الغروب في لندن
 العرب اليوم - خمسة مواقع لا تُفوَّت لمشاهدة الغروب في لندن

GMT 06:51 2025 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

دليل عملي لغسل الستائر في المنزل بسهولة وفعالية
 العرب اليوم - دليل عملي لغسل الستائر في المنزل بسهولة وفعالية

GMT 19:29 2025 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

زواج أحمد السقا يشعل منصات التواصل الاجتماعي
 العرب اليوم - زواج أحمد السقا يشعل منصات التواصل الاجتماعي

GMT 13:09 2025 الأربعاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تعيد أميركا تأهيل حركة حماس لحكم غزة ؟!

GMT 13:23 2025 الأربعاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

لا حلّ في السودان... من دون خروج الجنرالين

GMT 08:21 2025 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

في اليوم العالمي للفلسفة: في البدء كانت الحكمة!

GMT 18:06 2025 الإثنين ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

بي بي سي تؤكد عدم وجود أساس قانوني لدعوى ترامب

GMT 14:11 2025 الأربعاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب يشيد برونالدو ويصفه بأحد رموز التغيير في المملكة

GMT 07:07 2025 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

خمسة مواقع لا تُفوَّت لمشاهدة الغروب في لندن

GMT 19:51 2025 الإثنين ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

وفاة 100 فلسطيني داخل السجون الإسرائيلية خلال عامين

GMT 20:11 2025 الأربعاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

شهيد ومصابان جراء غارات للاحتلال غرب خان يونس جنوب غزة

GMT 05:53 2025 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يقرر لقاء رئيس بلدية نيويورك في المكتب البيضاوي

GMT 19:43 2025 الأربعاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

قلب دفاع آرسنال يغيب عن الملاعب عدة أسابيع بسبب الإصابة

GMT 17:00 2025 الأربعاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

ستيف ويتكوف لن يشارك في مباحثات أنقرة بين زيلينسكي وإردوغان

GMT 20:08 2025 الأربعاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يدخل مناطق سيطرة الاحتلال في جنوب سوريا ودمشق تدين

GMT 06:18 2025 الخميس ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الاحتلال يحاصر مستشفى الوطني في نابلس

GMT 19:20 2025 الأربعاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

تقاليد وعادات.. زيارة الذين غابوا

GMT 19:25 2025 الأربعاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

تسلق جبل الإبداع.. هو النجاح

GMT 19:23 2025 الأربعاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

الخطر لا يأتى فقط من الشرق
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon
arabs, Arab, Arab