بقلم : فهد سليمان الشقيران
مسألة الممانعة ضد الأنوار لم تقتصر على الشعوب البدائية، أو النامية الصاعدة، بل حدثت أضخم ممانعة ضد الأنوار في مهد انبثاقها في قلب أوروبا. ليس سهلاً أن ينتقل البشر من التنافي إلى التفاهم. جزء كبير من همّ الفلاسفة وصناع القرار بالعالم صناعة نقلة استثنائية تجعل الهويّة أكثر تمدناً بحيث تكون بقدر ما تحتفظ بخصوصيتها، فإنها تكتنز قوتها على الامتداد بين الثقافات والحضارات والشعوب.
أحسب أن دول الخليج قطعت شوطاً كبيراً في هذا الإطار، فثمة جديّة في المشاريع، وحماسة لتحقيق الأهداف، وتناغم بين الحكومات والمؤسسات، وآية ذلك أن الأحداث الكبرى التي تعصف بالمنطقة تثبت دول الخليج أنها الأقدر على التعامل معها وذلك بسبب خاصيتين اثنتين.
الأولى: أنها دول تنموية ذات بعد مدني وليست أيديولوجية. نعم لديها تراثها العريق، وامتدادها الديني المديد، لكن ما يمتّن كل ذلك البعد المدني الحيوي، والاحتكاك الحضاري الخلّاق، لا تتحدث الدول الغربية مع دول عربية بذات الجدية والندية كما تفعل مع دول الخليج، وذلك بفضل القوة السياسية الواقعية، وبسبب الثقل الروحي والاقتصادي أيضاً.
الخاصية الثانية: أنها دول ذات امتداد متصالح مع الحضارة الغربية، لم تركب موجة اليسار، أو الثقافة المتعالية على العالم وتجاربه، وهي بقدر ما تحتفظ بعلاقاتٍ متميزةٍ مع الصين وروسيا واليابان وكوريا الجنوبية وعموم الشرق، لديها تاريخ دبلوماسي عريق وضارب عبر التاريخ مع الغرب.
وللتاريخ نموذجه على تلك الممانعة. يحدثنا الفيلسوف المهتم بموضوع الهوية داريوش شايغان في كتابه «الهوية والوجود.. العقلانية التنويرية والموروث الديني»، بمثالٍ تاريخي بارز حين حدثت ردة الفعل ضد كونية الأنوار ظهرت في أوروبا نفسها. وكان رد الفعل الأول ألمانيّاً. وبحسب شايغان فقد أدّت ثورة الألمان ضد هيمنة الثقافة واللغة الفرنسيتين اللتين هيمنتا على أوروبا بأسرها في القرن الثامن عشر إلى قيام حركة العاصفة والاندفاع، على خلفية الاستياء لكبرياء وطني جريح ومهان. في البداية قلّد الألمان الفرنسيينَ، ثم ما لبثوا أن تمرّدوا عليهم. والأهم من ذلك أنّ هذه الثورة ستُلهمُ، بعد نحو قرن من الزمن، أنصار النزعة السلافية وكبار الكتّاب الروس مثل تولستوي وديستوفسكي، وأنّ هذا الرفض للغرب سيُستأنف بعد قرنٍ آخر، وعلى نحو أكثر حدّة، في العصر الثقافي الإسلامي، إذ ستكتسي المطالبات الهوياتية الناجمة عن الإخفاقات التاريخية – إخفاق النزعتين القومية والاشتراكية – صوراً بالغة التنوع، وستؤول، مع قيام الثورة الإيرانية، إلى انكفاء على الذات. دمّرت حربُ السنوات الثلاثين ألمانيا في القرن الثامن عشر مخلِّفةً وراءها فوضى عارمة. وتحول البلد الذي انقسم إلى إمارات عدة إلى بلد مؤلف من مقاطعات. لم يكن هنالك مركز مثل باريس من شأنه أن يفسح المجالَ أمام إحياء ثقافي.
الممانعة ضد الأنوار سببها الأساسي ذو بعد هوياتي شرس، أي أن التنازع على الأفضلية والتباهي بالتاريخ منعَا أجيالاً بأسرها من التفاهم مع جيرانهم. لاشيء يمكنه أن يمنع حضارة من التفاهم مع الأخرى، أو ديناً من الحوار مع الدين الآخر، والهوية لا يمكن إلغاؤها بل يمكن تعريضها لصدمةٍ خفيفة حتى تستطيع التعلّم بأن الانكفاء على الذات لن يصنع إلا الكوارث المدلهمات.