حتى لو بقينا نرشُّ عسلاً على نوار أشجار الدفلى، فإنّ زهورها ستبقى شديدة المرارة، وحتى لو أنّنا كلنا وضعنا أكُفنا فوق عيوننا حتى لا نرى حقائق الأمور، فإنّ الكثير من واقعنا العربي، ومهما «رَشّينا» عليه من المساحيق التجميلية، فإنّه في حقيقة الأمر كان وبعضه لا يزال لا يسرُّ الأصدقاء ولا يغيض الأعداء، وبالطبع فإنّ هذا كله ومهما حاولنا الاستنجاد بالمساحيق الجميلة... فإنّ واقع الحال سيبقى يقول إنّ الرياح كانت تجري بما لا تشتهي السفن!!
أنا أعرف أنني كنت من بين الذين يرشّون على الموت سكراً، لكن وبعد أن خطَّ الشيب رأسي فإنّني عندما أطلُّ على الماضي... وأدقِّقُ فيه بعيونٍ غير حولاء فإنّني أجد أن الحاضر ومهما حاولنا تجميله، وإنْ أردنا أن نكون صادقين فإنه يغيض أصدقاءنا وبالطبع يسرٌّ أعداءنا... وهنا فإنّ من يريد التأكد من هذا فعليه أن يتطلع «يُبحِّر» في الشرق وفي الغرب وفي الاتجاهات كلها، فإنّه وبالتأكيد سيرى حقائق تُبكي العيون وتوجع القلوب!!
أنا أعرف أن كثيرين يخالفونني هذا الرأي في هذا المجال، وأنهم يعتبرون أنني أنظر إلى الأمور بعينين لا تريان حقائق الأمور وكما هي عليه، وحقيقةً أنني دأبت على أن أنظر إلى الأمور بعينين متيقّظتين فوجدت أنّ أمورنا لم تتغير وأنّ ما كانت عليه قد بقيت على ما هي عليه... لا بل وأسوأ كثيراً.
وهنا، فإنّه عليّ أنْ أؤكد أنني كنت وما زلت أنظر إلى هذا الواقع، أي واقعي وواقع هذه المسيرة العسيرة التي كنت قد مررت بها، والمؤكد أنّ كثيرين غيري قد مرَّوا بها فوجدت أننا من جيلٍ كان لا يزال يعيش أحلاماً وردية، وأنه عندما فتح عيونه وجد أنه صحيحٌ أنّ المستحيل ثلاثة: الغول والعنقاء والخلُّ الوفي!
وحقيقةً أنني من جيلٍ كان يزغرد لغيوم السماء غير الممطرة، وقد كنا نراهن على أحزاب وأنظمة ثبت أنها هي الغول والعنقاء والخلُّ غير الوفي... وأنه بالنسبة لي قد راهنت على «حزبٍ» ما لبث أن أكل بعضه بعضاً، وراهنت على أنظمةٍ كانت قد رفعت شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية... وثبت أنه لا وحدة ولا حرية ولا اشتراكية... وأيضاً وإن أردتم ولا ماركسية ولا لينينية!
وهكذا... لا بل ويقيناً أننا بقينا نسير مغمضي العيون في مسيرةٍ عسيرة... وبالطبع فإنّ هناك خرافاً بشرية سمينة، وإنّ هناك من لا يجدون قوت يومهم... وهكذا فإنه قد لا يكون صحيحاً أن المستحيل ثلاثة: الغول والعنقاء والخلُّ الوفي... فهناك غيلان بشرية كثيرة... وهناك عنقاوات كثيرة... وهناك بعض الأوفياء بالتأكيد وبالطبع.
لكن وحتى وإنْ غلبنا الإيجابيات على السلبيات فإنّ حقائق الأمور تقول إن السلبيات قد وصلت إلى أعناقنا، وإنّ الإيجابيات قد اقتصرت على القلة القليلة... وأنا هنا لا أتحدث عن عباد الله الصالحين... والفقراء والمساكين... لا بل عن الغيلان والشياطين فإنني أسأل الله العلي القدير أن يشمل برحمته الواسعة عباده الصالحين.
ثم وحقيقةً لا شك فيها أن واقعنا العربي الحالي يعاني من الكثير من الأمراض والويلات، وهذا ورغم أن هناك مخلصين وطيبين كثراً، ومن يسبحون ضد هذا التيار الجارف... لكن دون أي مقاومة فعلية ومنتجة، وهنا ومرةً أخرى فإنه عندما ننظر إلى هذا الواقع العربي بعيونٍ غير مصابةٍ لا بالحول ولا بالرمد، فإننا سنرى وبالتأكيد ما لا يسرُّنا ولا يسرُّ الأصدقاء لا بل والأعداء وفي مقدمتهم العدو الصهيوني... و«الأصدقاء» الذين هم أكثر عداءً مبطناً!!
وهنا وحتى لا نصدم أجيالنا الصاعدة التي باتت تُحقّقُ نجاحات فعلية كثيرة فإنه لا يجوز التمادي كثيراً في هذه السوداوية، والمعروف أن تاريخنا كان قد مرّ بكبوات كثيرة، وهذا إن قبل الإسلام العظيم وإنْ بعده، ولكن عندما نراجع هذا التاريخ فإننا نجد أنّ هناك إنجازات كثيرة... وأن صهيل الخيول العربية إنْ في المرحلتين الأموية والعباسية، وبالطبع وقبل ذلك في مرحلة الإسلام العظيم الأولى قد انتشر في 4 رياح الكرة الأرضية وفاض بنوره وحريته على البشرية... ومن المحيطات إلى المحيطات كما هو مؤكد ويقال.
ورغم ذلك أيضاً، ورغم هذه السوداوية فإنه يمكن تلمس طريق جديد باتت تختطُّه بعض البلاد العربية، ويبشر بالأمل، طريق يقوده الشباب ويركز على التنمية الحقيقية والاعتماد على الذات، يبتعد عن الشعاراتية الممجوجة لكنه يركز على الإنجاز والتقدم بمجتمعاته، ولا ينسى أو يتجاهل دوره الإقليمي والعربي والدولي المهم، بل يسعى لأن يكون رقماً صعباً لا يمكن أن تتجاوزه المعادلات الإقليمية والدولية في هذا العالم الذي لا يرحم، كما يقال.
وإن نظرةً متفحصةً لما يتحقّق في المملكة العربية السعودية وعن طريقها، إن محلياً وإن على المستوى العربي، لأمرٌ يبعث على الأمل بأنّ هذه الأمة العربية لها مكانها ودورها الذي لن يغيب... فهي محلياً أو داخلياً تقفز قفزات كبيرة على طريق التنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي، وعلى المستوى العربي والدولي فإنها باتت حجر الرحى عربياً، تجمع الجميع حول مصالح الأمة وتنافح عن حقها بأن يكون لها دورها بين الأمم.
إنه ورغم كل ما مررنا به من سوداوية ونحن نرى تفتُّت وتمزُّق دول عربية وامتداد الأيدي الغريبة إليها تخريباً ومداً للنفوذ، فإننا اليوم نستبشر بما تسير به السعودية من سياسات وإجراءات حكيمة لتوحيد المواقف العربية وإطفاء الأزمات المشتعلة في الإقليم والتركيز على التعاون العربي... وإنّ هذا ليس غريباً على المملكة، فهي التي كانت دوماً السباقة لإعادة بوصلة هذه الأمة نحو ذاتها ومصالحها ومبادئها القومية كلما ابتعد الآخرون عن ذلك.