بقلم - صالح القلاب
في مثل هذه الظروف والأوضاع التي قد وصلنا إليها وبتنا نمُر بها، رغم أنوفنا وآذاننا وعيوننا، لا نجد ليس كلنا وإنما بعضنا إلا أنْ نهرب هرولة وأيضاً وزحفاً على الركب والأقفية، وأن نستنجد بأجمل ما تغنى به الراحل الكبير والعظيم حقاً... مصطفى وهبي التل، ببلادنا... وترابها وجبالها وهضابها وشوكها وعقاربها وأفاعيها... وذئابها وثعالبها... وكل شيء!
يقول مصطفى وهبي التل الذي نتمنى لو أنه بقي معنا حتى الآن: يا أُخت رم وكيف رم... وكيف حال بني عطية هل ما تزال هضابهم شُما... وديرتهم عذية... سُقياً لعهدك والحياة كما نؤملها رضية... وتلاع وادي اليتم أيام لم يك للفرنجة أسبقية... آمالهم لا فينا بقية.
كان «عرار» مناهضاً للاستبداد وكان انتماؤه للأرض والطبيعة وكان إخلاصه للحرية... ولقد كان متمرداً «آه ما أحلى التمرد بالحق»، وكانت حياته برية بالفعل، وكان من عشاق الصحراء، لأن الصحراء بالنسبة إليه تعني التحرر وهو قد كان بكل معنى الكلمة ثائراً ليس بالرمح، ولكن بالقرْطاس والقلم... وبالكلمة التي تُفتت الحجارة الصوانية.
اختار هذا الأردني العظيم حقاً اسْمه هذا الذي كان يفتخر، وبات يناديه به الناس من أهل إربد والشام وكل ديرة من هذا الوطن الذي كان موضع اعتزازه... وموضع اعتزازنا نحن أيضاً من قول الشاعر العربي عمرو بن شاس الأسدي في ابنه (عرار):
أرادت عرْعَراً بالهوان ومن يُرد
عرعراً بالهوان لعمري فقد ظلم
ويقول:
يا أُختَ وادٍ قد دعوتك باسمِه
وله نسبتُ تبركاً ديواني
ويقول أيضاً:
قُلْت عني حيث ينحو الحب أنحو...
وحياتي لا تسل عن كنهها... إنها حانٌ وألحانٌ وصدحُ
وأيضاً يقول:
وأماني شبابٌ فاتها
مثلما فات بني الأردن نَجْحُ
وعثارُ الجد قد صيرها
عبرة خرساء هيهات تُسِح
فهي أحياناً بشعْري آهة
وهي أحياناً جوى يُشجي وبرْحُ
وهي طوراً في مغاني قصفهم
عربدات تضحك الثكلى ورَدْحُ
وقيل وكل قول مقبول: إن تجربة بدر شاكر السياب حياة وشعراً ولقاءً، بين عالم يتراجع وآخر يتقدم، آتياً من المستقبل... وتتم هذه التجربة في وسط تُجسد هذا اللقاء وتُعبر عن نفسها بأشكالٍ تُجسد حركة التفتت والنمو في آن... هذا الوسط هو مدينة السندباد «مدينة السراب»، قاحلة الضياع، «أم البُروم» مدينة بلا مطر... لكنها في الوقت نفسه... هي المطر والنهر والبعث فلحظة تبدو ساحات هذه المدينة ودروبها مليئة بالحُفر والعظام... وحدائقها مزروعة برؤوس الناس... والأسوار مضروبة على كل شيء فيها تسمع قطرة همست بها نسمة تقول: «إن هذه المدينة... إن بابل سوف تغسل خطاياها».
يقول أدونيس: «أَمَا كل لحظة أراكِ يا بلادي في صورة، أحملك على جنبي بين دمي وموتى أأنت مقبرة أم وردة... أراكِ أطفالاً يجرجرون أحشاءهم يسجدون للقيد، يلبسون سوط جَلْدِهِ... أمقبرة أمْ وردة؟ قتلتني... قتلت أغنياتي. أأنت مجزرة أم ثورة؟ أحار، أراكِ يا بلادي في صورة... وعني يسأل الضوء ويمضي حاملاً تاريخه المقتول من كوخٍ لكوخٍ علموني أن لي بيتاً كبيتي في أريحا... إن لي في القاهرة إخوة.
كيف استحال العَلمُ قيداً والمدى ناراً وحصاراً، أو ضحية، ألهذا... يرفض التاريخ وجهي؟ ألهذا لا أرى في الأفق شمساً عربية».
إنه بين اليقظة وَهْدأة الحلم تسري سطور أدونيس مترعة بالمشاهد التي تجتزئ من التاريخ صوراً ومن الحياة رسوماً، لتتآلف في مدى خيال القارئ فتشكلا تارة حلماً... وتارة ألماً... وأطواراً تهويمات شاعر يدخل في مدى أحزان هذه الأمة من بوابات الأحاسيس.
وبالطبع فإن ما يقوله أدونيس لا يقوله غيره... وإن من الآخرين من يتوكؤون عليه بدون أن ينسبوه إلى أنفسهم... وكما جرت العادة في بعض الأحيان لدى العرب العاربة وفي أحيان أخرى عند العرب المستعربة... ويقيناً أنني عندما أقرأ في بعض الأحيان ما يزغرد له القلب... أتوقف ليس قليلاً... وإنما كثيراً... وأحك رأسي الذي أصبح مصبوغاً بأبيض الشيب... وأتمتم... أين قرأت هذا يا ترى... من هو صاحبه الفعلي والحقيقي؟!!.
إنه، أي مصطفى، ليس مجرد «تلا» وكفى... إنه الأردن بجباله ووهاده وأوديته... إنه مزمار راع في روابي السلط ووديان إربد... إنه بدوي وابن إحدى قبائلنا التي حافظت على الأرض... وصانت العرض... والتي عندما يغشاها... قاصدون في منتصف الليل... يكون قدرهم مرتاحاً فوق ثلاثة من «الهوادي» التي اعتادت على النهوض بالقدور، وعلى استقبال ضيوف الليل، وعلى إطعام من أوجعهم الجوع لطول الطريق.
ويقيناً أن هذا «التل» الذي وهبه الله لهذا البلد الذي أجمل ما فيه هو أن صحاريه أجمل ما في الكون، وإن عواء ذئابه يأتي استجابة لأنين ربابة ومن توجد ناقة وضحاء غاب عنها «حوارها» الذي كانت تنتظر أن يصبح طوداً لا يستطيع أي «هائج» من الإبل أن ينظر إليه.
لا أحد عشق الروابي الأردنية كما عشقها المتيم وصفي التل، الذي من أجمل ما بقينا نردده عنه هو «العشيات»... أي عشيات وادي اليابس... التي جعلها عشيات أردنية «بدوية»!
ويقيناً إن من أجمل ما سمعته وقرأته وسمعه وقرأه غيري، هو ما كان قاله أدونيس: كيف استحال القلم إلى قيد واستحال المدى إلى نار وحصار وضحية... ولهذا فإنني لا أرى في الأفق شمساً عربية!!.