بقلم - صالح القلاب
ما كان متوقعاً أن «يخبِطَ الجنون» عالم هذا اليوم، الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، إذ أصبح هناك من يتوقع حدوث ما ليس كالحرب العالمية الأولى، ولا كالحرب العالمية الثانية، بل أكثر دماراً وخراباً وأكثر قتلاً وتشريداً، وحقيقة أنّ هذا الذي يحصل في «أربع رياح الكرة الأرضية» هو اشتباكٌ عالمي وكوني، اختلط فيه الحابل بالنابل، حيث إن دولاً كانت تعتبر رئيسية في المجموعة العالمية، وبالطبع من بينها دول عربية، كانت أساسية، لم يعد لها وجود فعلي إلّا على هوامش الدول المتناحرة، ومجرد أرقام صراعٍ، مرة تحسب على هذا الاتجاه، ومرة على الاتجاه الآخر!!
ويقيناً أنه لم يكن متوقعاً أنّ بعض دول هذه المنطقة التي كانت تحسب أرقاماً رئيسية فاعلة وأساسية في المعادلات الكونية، وليس في المجالات الإقليمية فقط، قد أخذها داء الانكماش والتقزُّم، وذلك إلى حدِّ أنها قد أصبحت أرقاماً ثانوية وتابعاً ذليلاً إلى هذه الكتلة أو تلك من الكتل الكونية والعالمية المتصارعة، إذ إنْ الصراع على النفوذ في عالم اليوم الذي لم يعد عنوانه الولايات المتحدة ولا الاتحاد السوفياتي، حيث إنّ المعروف أنه كانت هناك حسابات أخرى غير هذه الحسابات.
وبالطبع، فإنّ نجم الصين لم يكن قد بزغ على هذا النحو، ويصبح مجرد إشارة منها تهز المعادلة الكونية كلها، وإن روسيا الحالية قد تجاوزت ما كان يسمّى الاتحاد السوفياتي، وها هي اليوم قد باتت الولايات المتحدة تطأطئ رأسها أمامها، وإنّ بكين لم تعد تتلطّى في المعادلات، وها هي اليوم إنْ هي رفعت إصبعها فإنّ العالم كله بات ينتظر إشارة منها، وإنّ بريطانيا العظمى التي كانت تحكم «أربع رياح الكرة الأرضية» باتت ترفع إصبعها استئذاناً، أمام دولة لم تكن رقماً محسوباً على أي معادلة كونية أساسية ورئيسية!!
والمؤكد أنّ هذه الحقيقة قد باتت واضحة ومعروفة، وأنّ صين ماو تسي تونغ قد تجاوزت واقعاً سابقاً، وأنّ أي قرارات في عالم اليوم لم تعد تُتخذ من دونها، ولهذا فإنّ عالم اليوم لم يعد نسخة كربونية من عالم الأمس، وأنّ بكين لم يعد عنوانها صورة الزعيم «المُبجّل» ماو تسي تونغ، وإنما القوة العسكرية والاقتصادية، حيث إنّ معادلات اليوم لا بد من أنْ تأخذ في عين الاعتبار معادلتها، وإنّ الولايات المتحدة بـ«عظمتها» لا يمكن إلّا أنْ تأخذ هذا بعين الاعتبار، حيث إنّ هناك قراراً هو قرار الصين، الذي لا بدَّ من انتظاره وأخذه بعين الاعتبار.
والمعروف أنه ما دام أنّ هذا الاستعراض هو في هذا المجال، فإن شمس الاتحاد السوفياتي كانت قد غربت مبكراً، وإنّ الصين التي كانت تعتبر تابعاً لروسيا (سوفياتياً) قد أصبح لها الآن كل هذه المكانة الدولية والكونية، وأصبح هناك رئيسٌ صيني، إن هو رفع رأسه قليلاً صار هناك في العالم من يصمت ليسمع ما يتحدث به ويقوله... وهذا هو الواقع الآن، إذ إنّ ما كانت تسمى الصين الوطنية قد أنهت استعدادها للالتحاق بالصين الشعبية، وإنّ الصين هذه التي كانت تنتظر قرار روسيا والاتحاد السوفياتي قد بات العالم كله ينتظر قرارها... وإذ إنّ هذه الصين الوطنية التي كان قد زرعها الغرب في حلق ماو تسي تونغ لم تعد إلّا مجرد «مستودعٍ» لذكريات، قد تجاوزتها حركة التاريخ، وإنّ من يسعون إلى «نبشها» يريدون إثبات أنّ أجدادهم وآباءهم قد كانوا أرقاماً في حركة تاريخية كانت فاعلة ورئيسية.
وهكذا، فإنّ الصين هذه التي عبرت حدوداً استعمارية وسياسية وإبداعية عالمية كثيرة، بكل تفوقٍ ونجاحٍ، من حقّها أن ترفع يدها الآن عالياً وتطالب بمكانتها الدولية والكونية وكل شيء، بل أن تفرض هذه المكانة على العالم كله، فالدول الفاعلة من المعروف أنها تحتلُّ مكانتها العالمية وتأخذ حقوقها بالقوة، ولذلك فإن بكين لا تطالب، بل إنها باتت تأخذ حقوقها من خلال القوة التي غدت تتمتع بها، ولذلك فإنها عندما قالت إنه لا يوجد في هذا الكون إلّا «صين» واحدة، وإنه لا صين إلّا هذه الصين، فإن العالم كله قد استمع بآذان صاغية.
وهنا، وبالعودة إلى ما مرّ ذكره، فإنه بإمكاننا أن نواصل ذلك الغناء القديم للوحدة وللأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة. هذا الكلام الشعري الجميل لم تعد له أي أهمية، وعالم اليوم هو عالم الأفعال، وليس الأقوال، والمؤكد أنه إذا بقينا العرب ندور حول أنفسنا، ونتغنّى بماضينا وبأشعاره التي باتت بعيدة جداً، والتي في كل الأحوال علينا أن نوصلها لأبنائنا وأجيالنا القادمة، فإن حركة التاريخ ستتجاوزنا بالتأكيد، وعلينا أن نعتزَّ بقيس بن الملوح وأشعاره... لكن علينا، وهذا هو الأهم، أن نواكب مسيرة هذا التاريخ، التي لا يمكن أن تنتظر أي متخلفٍ عنها.
إنّ هذا يجب أن يقال ويعلن، ومواصلة التأكيد عليه، وهذا هو ما جعل أنه لا بد من الاستجابة الفعلية إلى هذه الاندفاعة الصينية، فالصين قد أصبحت مثابة عالمية. ومع التقدير والاحترام لروسيا والاتحاد السوفياتي ولـ«الرفيق» ماو تسي تونغ تلميذ الرفيق لينين، فالتحف والآثار الجميلة لا بد من الاحتفاظ بها وإيصالها إلى أجيالنا الصاعدة ليتّكئوا عليها، لكن الحاضر هو الأهم وهو الطريق إلى المستقبل... لأن المستقبل هو أجيالنا الصاعدة التي يجب إخراجها من كهف «الغول والعنقاء والخلِّ الوفي»!!
والمؤكد أنه ما دام أننا في النهاية، وحقيقة أنه لا نهاية في هذا المجال، لا بدّ من أن تُدفع أجيالنا الصاعدة إلى هذا المستقبل دفعاً، وعلينا أن نواصل التقدم ونجعل القديم جداراً واستناداً للجديد، والجديد هو هذه الأجيال التي يجب عدم تركها للقديم وللغول والعنقاء... «والخلِّ غير الوفي».
علينا أن ندرك أنه من لا قديم له لا جديد له، لكنه لا بد من أن يكون قديمنا الذي نعتزُّ به دافعاً لجديدنا، وجديدنا هو هذه الأجيال الصاعدة التي يجب الكفاح الجاد لوضعها على الطريق الصحيح... والطريق الصحيح هو أن تستند أجيالنا إلى هذا القديم الذي فُقد، لكن علينا أن نكافح من أجل وضعه على الطريق الصحيح... مع عدم نسيان مقولة «الغول والعنقاء... والخل الوفي»!!