بقلم - صالح القلاب
سيبقى الحديث متواصلاً عن العلاقات بين القائدين البعثيين، وعن رئيسي الدولتين العربيتين الأكثر تأثيراً في الساحة العربية في فترة حاسمة بالفعل، والمقصود هنا الرئيس السوري حافظ الأسد، والرئيس العراقي صدام حسين، اللذان كان تقاربهما مشكلة المشكلات بالنسبة للأوضاع العربية كلها، وكان بقاؤهما الأكثر إشكالاً للعراق وسوريا وللعالم العربي بأسره، وهذه «عقدة» يبدو أنها ستبقى مستمرة، ويقول البعض إلى الأبد، وكأن واقع الحال هو الأمويّون من جهة، والعباسيون من جهة أخرى.
وحسب ما كُتب وما قيل وما تم «التلاسن» بشأنه بين الجهتين المعنيتين، أي العراق وسوريا... والأصح بين «البعث» العراقي و«البعث» السوري، فإنّ مبادرة للتواصل والتقريب قد جاءت في منتصف عقد تسعينات القرن الماضي، وعلى غير ما كان متوقعاً، من قبل الأكثر تشدداً و«عنجهية»، أي صدام حسين.
لقد كان صدام حسين، من قبل أن يكون هناك النظام البعثي في سوريا وفي العراق، ليس مع وئام مع حافظ الأسد، على أساس أنه ينتمي مذهبياً إلى الطائفة العلوية «السورية» غير المقبولة بالنسبة إليه. لكنه قد بادر في منتصف عقد تسعينات القرن الماضي إلى فتح قناتي تواصل سريتين مع الرئيس السوري، لكن هذا قد ساورته الظنون، على أساس أن الثقة كانت معدومة بين الطرفين.
وحقيقة أنه لم تكن هناك أي ثقة بين صدام حسين وحافظ الأسد، على الإطلاق، وذلك في ضوء تجارب الماضي، وخاصة أنّ صدام يتهم الأخير بدوره في إحباط تنفيذ «ميثاق العمل الوطني» المشترك بين دمشق وبغداد في عام 1979، لكنه مع ذلك قد قرر المضي في هذا الاتجاه.
وهكذا، فإنّ رسائل الغزل المتبادلة بين حافظ الأسد وصدام حسين قد كانت «مُلَّغمة» وكان كل واحد منهما «يُعدّ» للآخر ألف مؤامرة ومؤامرة، وكما هو واقع الحال بين العاصمة «الأموية» والعاصمة «العباسية»... ويبدو أنّ هذا الواقع لا يزال مستمراً ومتواصلاً حتى الآن!!
وهنا، وبما أننا نتحدث أيضاً عن هذه اللحظة التاريخية الخطيرة، فإنه يجب أن تكون هناك وقفة حق عند كثير من الأوضاع التي نراها الآن طالما أن هناك كثيرين ممن يحاولون... ويطالبون بالوقوف عند هذه اللحظة التاريخية الخطيرة... ويقدمون الخير على الشر والكلمة الصادقة على الكلمة العابرة.
وهذا يجب أن يدفعنا كلنا لأن ننحاز إلى الحق ضد الباطل، مع إدراك أن الأكثر وجعاً للأفئدة أن نرى دولاً عربية، وأيضاً إسلامية تمادت كثيراً في الانحياز إلى الباطل أكثر من انحيازها إلى الحق، في تلك اللحظة التاريخية وفي سياق الخلاف بين البعثين، حيث إن العراق العظيم عراق العباسيين كان قد اختلط فيه الحابل بالنابل وأصبح يغرق في مستنقع العزلة والعقوبات الموجعة، وحيث حافظ الأسد قد اضطر لإجراءات «أخوية» مع إسرائيل، وأنّ هؤلاء الذين يحكمون بلاد الرافدين قد اضطروا لكل شيء.
إنّ كثيراً من الدول العربية والإسلامية باتت تغرق في الخطايا والموبقات في انحيازاتها، ما يتطلب وقفة جادة مع هذا المنطق الخطير، والمطلوب هو تغليب الحق على الباطل دائماً وأبداً وفي كل لحظة.
وعليه، فإنّ «النكايات» بين العاصمة الأموية والعاصمة العباسية قد وصلت في تاريخها إلى حد أنّ حافظ الأسد قد عزّز الجبهة الجنوبية «السورية» مع إسرائيل على أساس توقيع اتفاقات كامب ديفيد، وهذا بالطبع قد واكبه جهد عراقي لتحصين الجبهة الشرقية مع إيران، وهكذا فإنه ما أن بدأت الحرب بين بغداد وطهران بعد الثورة الإيرانية حتى وقف الرئيس السوري مع عدو الرئيس العراقي، ووقف الرئيس العراقي مع خصم الرئيس السوري.
وفي المقابل، وبالطبع، فإنّ ردَّ بغداد قد جاء تلقائياً وبادرت إلى قطع علاقاتها مع دمشق، وهذا كان في عام 1980، ولجأت أيضاً إلى دعم «الإخوان المسلمين» في سوريا، فأغلقت بالمقابل دمشق، المنغمسة في لبنان، حدودها مع العراق عام 1982، ما أدى إلى قطع أنبوب النفط العراقي إلى البحر المتوسط الذي كانت قد وظفته إيران لنقل نفطها!!
وفي نهايات حرب إيران، أي في نهاية ثمانينات القرن الماضي، حاول العاهل الأردني الراحل الملك حسين - رحمه الله - جمع الأسد وصدام في لقاء «ماراثوني عاصف» تبعته لقاءات بين فاروق الشرع وعبد الحليم خدام وطارق عزيز... لكن هذا ما لبث أن انتهى نهاية مأساوية، حيث ازداد الصراع اشتداداً بين سوريا والعراق.
ثم بعد ذلك اختلط الحابل بالنابل، وأصبح العراق يغرق مرة أخرى في مستنقع العزلة والعقوبات واضطر حافظ الأسد إلى فتح مفاوضات مع إسرائيل بينما اضطر صدام حسين إلى كل شيء، لكنه كما هو معروف قد فشل في كل شيء!!
ولذلك، فإن أقلّ ما يمكن قوله عن هذا الواقع هو أنه كان الأكثر سوءاً مما مرّ على هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، والتي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كما جاء في كتاب الله العظيم.
وحتى هذا اليوم، فإننا نرى أن العراق وسوريا لا يزالان يدفعان ثمن تلك المرحلة التاريخية، التي تغلبت فيها الخلافات الشخصية بين القائدين على المصالح المشتركة والمبادئ الأخوية، حتى على العقيدة السياسية والفكرية المشتركة، ما أدخلهما في انحيازات وتحالفات متضادة، فرقت شمل الأمة وأوهنت في عضدها... ماضياً حتى اليوم.