بقلم - زهير الحارثي
هكذا هو لسان الشعب العراقي الشقيق كما أتصور وهو يشعر اليوم بمسار عودته لانتمائه الطبيعي متفائلاً بحجم التغيرات التي تعيشها بلاده، وإن كانت هذه العبارة من قصيدة عاطفية للراحل نزار قباني واصفاً فيها صدق لحظة مشاعر، فما بالك بإحساس شعب عريق وأصيل ينتمي إلى أمته العربية وعمقه الاستراتيجي.
المتابع لما يحدث في العراق يلمس أن ثمة تحولاً حقيقياً يجري هناك، لعل أوله توجهات الشعب العراقي بأطيافه ومشاربه ومكوناته نحو ترسيخ وحدته الوطنية عبر القفز على الموانع والحواجز الطائفية والمذهبية، يرافقها نغمة شعبية ارتفع صوتها مراراً مطالبة بعدم تدخل إيران في شؤون بلادها.
مسار تعافي العراق ليس توقعاً أو تخميناً، ولكن الجميع يرى ملامحه تتبلور وتبرز؛ فالحكومة تكافح الفساد وواجهت الخارجين عن القانون واستعادت الأموال المهربة وساعدت النازحين ليعودوا إلى منازلهم، ناهيك عن سعيها لحصر السلاح فقط بيد الدولة؛ ما يعني أننا بصدد عنوان عريض يتمثل في إعادة هيبة الدولة، بدليل العزيمة والإصرار بوضع الأمور في نصابها الصحيح.
اللافت، أن القيادة العراقية رغم كل ما تواجهه من ضغوط وظروف استثنائية، فإنها أثبتت حضورها بدءاً بتحسين علاقات بغداد مع الجميع، لا سيما الجيران، والتأكيد على استقلالية القرار السياسي العراقي وسيادته، وتبين ذلك في التعاطي مع الملفات الخارجية سواء عن طريق التسوية أو التهدئة والحوار.
ولكي نمضي إلى المزيد من الشفافية نرى أن السياسات التي ينتهجها السيد الكاظمي، فضلاً عن تصريحاته ومواقفه المعلنة، تكشف عن حس وطني عال وعقلية براغماتية؛ ما شكل مناخاً مغايراً وشعوراً متفائلاً لمستقبل مشرق، خصوصاً على صعيد العلاقات مع الدول العربية، وتحديداً دول الخليج.
الرسالة وصلت بوضوح بعد الملمات والأزمات وسيل من المعاناة؛ فالإرادة السياسية والرغبة الشعبية في أرض الرافدين تعكس توجهاً صادقاً وحنيناً دافئاً في العودة للأصل؛ تعزيزاً لقيمة الانتماء والتصاقاً بجذور التاريخ.
في حوار مهم ومطول لهذه الصحيفة نُشر قبل أسابيع، قال السيد الكاظمي لرئيس التحرير الأستاذ غسان شربل «إننا لسنا ملعباً لتمرير الرسائل ولن ننخرط في اصطفافات المحاور»، مضيفاً أنه «تجمعنا مع السعودية علاقات أخوة وتاريخ مشترك وثقافة ومصالح دائمة، ونشعر بالارتياح من تطور العلاقات بين بلدينا»، كما شرح مفهوم المشرق الجديد بأنه «تغليب المصالح المشتركة لدول المنطقة على الشكوك والأوهام»، مؤكداً أنّ بلاده «تنطلق من عمقها العربي». والحقيقة، أن كل ذلك قد تُرجم على الأرض؛ ففي الأسبوع الماضي تحدث الملك سلمان ورئيس الوزراء الكاظمي عبر الاتصال المرئي، وأكدا على ضرورة تعزيز التعاون الثنائي، ورحب رئيس الوزراء العراقي بدعوة الملك لزيارة السعودية.
وبالأمس، كانت بغداد في قلب الرياض، حيث حل السيد الكاظمي ضيفاً عليها ليستقبله ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بترحيب أخوي واستقبال مهيب. الجميع لمس الحفاوة والتفاؤل بالزيارة المهمة التي حملت تقديراً لوقوف السعودية بجانب العراق، ورسالة تأكيد بأنه متمسك بهويته وعروبته، وأن الرياض وبغداد ترفضان أي تدخلات خارجية في الشأن العربي.
الزيارة أثمرت مضاعفة تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، وضرورة إبعادها عن التوترات وأسبابها، كما تم توقيع اتفاقات عدة، منها تأسيس صندوق سعودي عراقي مشترك بثلاثة مليارات دولار إسهاماً من السعودية في تعزيز الاستثمار في العراق. واتفق الجانبان على دعم جهود العراق بالتعاون مع التحالف الدولي للتصدي لبقايا تنظيم «داعش» الإرهابي، وتأمين سلامة الحدود بين البلدين، وهذا أمر مهم لأننا نتحدث عن حدود طويلة بين البلدين تصل إلى 900 كلم، وهما موقنان أن الإرهاب عدو مشترك لهما، ما يتطلب التنسيق وتبادل المعلومات. هناك حاجة أيضاً إلى التعاون والمراقبة الدائمة لمنع أي نشاطات إجرامية، كعصابات وشبكات تهريب الأسلحة والمخدرات؛ ولذلك فالتعاون ما بين الرياض وبغداد في تقديري هو حاجة حتمية؛ فأمن العراق من أمن السعودية والعكس صحيح، وتعافي العراق بات ضرورة استراتيجية لاستقرار الإقليم.
ولا ننسى هنا أن نستحضر منظومة المشرق الجديد بين العراق والأردن ومصر. فهي رسالة أخرى على الانتماء العربي الحقيقي وإضافة عربية تكاملية وتنموية تصب في صالح تلك الدول، فضلاً على تحجيم تدخلات القوى الإقليمية وحماية الأمن القومي العربي، وإن كان ما يهمنا في المقام الأول هو تجدد انبعاث الروح العربية في سماء بغداد الشامخة حيث العروبة والتاريخ والمجد.
ما أقدمت عليه القيادة العراقية هو خطوة للأمام وتطور إيجابي على صعيد العلاقات العربية لتجاوز إخفاقات الماضي، ورغم أن هناك أطرافاً وأشخاصاً داخل العراق لا يميلون لهذا التقارب؛ لأنه في اعتقادهم يمثل تهديداً للمصالح الإيرانية في العراق، فإن مصلحة بغداد مع إخوانها العرب أهم وأبقى؛ لأن منطلقاتها خدمة لشعوبها وحماية للمصالح العربية.
زيارة السيد الكاظمي للرياض عكست جواً من التفاؤل والإيجابية والتفاعل مع ما هو قادم، حيث لم تقتصر على التعاون الثنائي بين البلدين، بل أسست لأرضية عمود فقري لنظام إقليمي عربي جديد قادر على مواجهة المشاريع التي تُحاك في منطقتنا