بقلم - زهير الحارثي
عام جديد ندخله اليوم واعتدنا منه أنه يأخذنا إلى دائرة التوقعات والتكنهات والتخمينات. هذه طبيعة النفس البشرية؛ تعيش حاضرها، ولكنها ترنو إلى معرفة المجهول والماورائيات. مرهقة هذه المشاعر والأحاسيس التي تلفنا عند بداية كل عام جديد، وخصوصاً منذ أن غزت متحورات «كورونا» كوكب الأرض. لا يزال الفيروس مرعباً ومهدداً، ولا يلبث أن يتشكل باستمرار، فلا يكل ولا يمل في حصد الأرواح، ورغم وجود اللقاحات لا يزال المتحور المتلون المخيف يكرس المعاناة القاسية لشعوب الأرض. ضحايا وعدوى وقلق وذعر وإجراءات احترازية وتداعيات كبيرة اقتصادية واجتماعية ونفسية لا تلبث أن تطفو حيناً وإن غابت أحياناً أخرى. لأول مرة في التاريخ ومنذ بدء الخليقة يتحدث العالم لغة واحدة ويقلق من عدو واحد غير مرئي، فـ«كوفيد - 19» غيّر وجه العالم وفرض نفسه علينا، وشغلنا كما لم يشغل العالم شيء آخر من قبل، بدليل أنه على قائمة الأولويات في عام 2022. الانطباع الذي نشعر به هو أن العام الجديد وعطفاً على إرهاصاته سيزيد حجم التهديدات فيه، ونقطة الغليان قادمة ولا تُستبعد زيادة الفوضى والمخاطر. المدهش والغريب في آن أن هناك توقعات تتجه إلى الأسوأ، وثمة قراءات معاكسة لها ترى أن انفراجات تلوح في الأفق، وإنْ كانت بطيئة، أو أنها تنضج على نار هادئة، على اعتبار وجود معطيات تدفع إلى حلحلة ملفات عالقة، منها الإقليمي والدولي.
تبلور ملامح جديدة في المشهد السياسي سواء على صعيد المنطقة أو العالم أمر متصوَّر وغير مستبعَد. غير أن تنامي خطر نشوب مواجهات سياسية واقتصادية بين قوى كبرى أيضاً لا يزال قائماً، وقد يدفع باتجاه صراعات عسكرية. لاحظ المماحكات الروسية الشرسة مع الغرب حول أوكرانيا، واللغة الحادة والتهديدية من الطرفين التي تتجه للتصعيد يوماً تلو آخر، علاوة على المسلسل الإيراني الذي لا تُعرف ما هي نهايته حيث المماطلة والتسويف والخداع والابتزاز وأسلوب فرض الشروط والإصرار على رفع العقوبات في اجتماعات فيينا، وقصة اللاجئين والهجرة غير الشرعية والمواجهات على الإنترنت، أو ما يُسمى «المواجهة السايبرية» ناهيك من تداعيات التغير المناخي. ولا بد من الإشارة أيضاً لمسرح الانتخابات العربية وعوالمها من تأجيل وتعديل، ولعل تونس وليبيا والسودان مختبرات حية لنجاح أو فشل هذه التجربة خلال العام الجديد.
نحن إذن بصدد مخاطر سياسية واقتصادية وبيئية غير مسبوقة، وهي في طريقها للأسف الشديد للتضخم والتفاقم. هموم الاقتصاد العالمي على سبيل المثال تزداد، والفجوة ما بين الأغنياء والفقراء تتسع، ومحاولة تقليص دور الحكومات عبر التخصيص وتوسيع حرية التجارة لا تزال هامشية، ومعالجة آثار التكنولوجيا المعلوماتية صعبة المنال.
ويظل الوضع الإقليمي هو ما يعنينا بالدرجة الأولى، وبات يتسم بالسيولة السياسية وتسارع المتغيرات، فأزمات ومشكلات الشرق الأوسط من طبيعتها التداخل، بحيث لم يعد بالإمكان الفصل ما بينها أو التعاطي معها بطريقة منفردة. من يتأمل تفاعلات الخريطة السياسية الآنية للعالم العربي يستشعر أن هناك محاولات نحو تكريس مسلسل الانفصال والتقسيم والتفتيت في سوريا واليمن والعراق وليبيا والسودان. هذا يؤكد حقيقة المأزق الذي تواجهه تلك الدول بسبب التدخلات الإيرانية والتغول التركي، في ظل صمت المجتمع الدولي والأممي. لبنان واليمن والعراق وليبيا دول عربية لا تزال تعاني، وتجمعها كارثة التدخل الخارجي والتورط في سياسة المحاور، بحيث أصبحت ساحة لعبث الميليشيات الإيرانية كـ«حزب الله» والحوثي و«الحشد الشعبي».
هل ستتجه الأمور إلى ما هو أسوأ وتستمر طهران وأنقرة في ترسيخ تيار الآيديولوجيا لنشهد صراعات طائفية وقتلاً على الهوية وصراعاً مذهبياً وكراهية الآخر في دول عربية؟
لا نستطيع الجزم بشيء، ولكن لا يمكن إرساء المقومات الأساسية لوحدة دولة جاذبة ومنتجة في عالمنا العربي ما دامت لم تعالج ضعف مشروعها التنموي، وعدم تأسيسها لدولة المواطنة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تبقى مواجهة التطرف والإرهاب ضرورة قصوى لحماية دولنا والعالم. تحصين الهوية العربية والقومية في الدول العربية المستباحة في نهاية المطاف مطلب وضرورة لأنه من المعيب التصديق بوجود ولاء في تلك الدول لنظام الملالي الإيراني أو التركي وإنما لمصالح ومنافع مادية واقتصادية بحتة.
قواعد اللعبة السياسية أيضاً قد تغيرت، ما يعني أن هناك تموضعاً جديداً للسياسة الدولية في المنطقة. ما زلنا نأمل في أن واقع الحال المؤلم الذي يعيشه العالم يدفع باتجاه حل الخلافات من أجل الوصول لقواسم مشتركة ومستقبل مشرق للبشرية. التشنج السياسي بين القوى العظمى الذي نعيشه اليوم أمر غير مشجع ويثير الكثير من التساؤلات المطروحة حول مسار العلاقات الدولية ومستقبل الأمن والاستقرار في كوكبنا، ولا نعلم علم اليقين إلى أين تتجه الأمور، ومع ذلك ستبقى قراءات وتكهنات إلى حين كشف النتائج. الشعوب ترنو إلى أن يتحد العالم على نحو يواجه من خلاله مخاطر الواقع الجديد وتحدياته.
فهل نشهد في العام الجديد انفراجات سياسية تقود إلى معالجات نهائية في ملفات المنطقة والعالم أم سينفرط الحال وندخل في حلقة مفرغة لا تنتهي من توالد الأزمات؟ نظن أن الحل الشامل يحتاج بالتأكيد إلى إرادة سياسية لكل المؤثرين، وهو ما يصنع الفارق وإن كان المشهد بالغ التعقيد والأيام حبلى على أي حال، وكل عام والعالم أجمع بخير.