بقلم :ناصيف حتّي*
تعاني أوكرانيا منذ إعلان استقلالها رسمياً في شهر أغسطس (آب) 1991 من لعنة الجغرافيا السياسية؛ اللعنة التي تصيب دولاً بسبب أهمية وجاذبية موقعها في قلب التنافس بين الكبار سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي في «مسرح استراتيجي» معين. أضف إلى ذلك أن تاريخ العلاقات بين روسيا وأوكرانيا وتشابكها يعود إلى زمن روسيا القيصرية. كما أن التركيبة الإثنية والمذهبية لأوكرانيا ساهمت تاريخياً في تعزيز هذا التداخل أو التشابك بين البلدين.
وللتذكير على سبيل المثال فإن خروشوف قد ألحق عام 1954 شبه جزيرة القرم بأوكرانيا السوفياتية بعد أن كانت جزءاً من روسيا السوفياتية. ومنذ الاستقلال وأوكرانيا تعيش في حالة تجاذب بين روسيا والغرب. وللتذكير أيضاً فإن أوكرانيا هي ثاني دولة في أوروبا من حيث المساحة بعد روسيا، وسابع دولة من حيث عدد السكان. انضمت إلى رابطة الدول المستقلة إلى جانب روسيا وبيلاروسيا في نهاية عام 1991.
وحصلت أوكرانيا على مظلة أمنية دولية في نهاية عام 1994 من خلال تعهد ثلاثي روسي أميركي بريطاني باحترام استقلالها وسيادتها وحدودها مقابل التخلي عن الأسلحة الذرية الموروثة من الزمن السوفياتي. ودخلت في معاهدة صداقة وتعاون مع روسيا في عام 1997، وانضمت في عام 2003 إلى منطقة اقتصادية مشتركة مع كل من روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان. ولكن في عام 2008 في قمة بوخارست أبدت أوكرانيا رغبتها الانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي.
وكان ذلك بمثابة جرس إنذار لموسكو رغم استمرار التعاون بينها وبين موسكو، مع تأكيد الرغبة في التكامل مع الاتحاد الأوروبي وتوقيع اتفاقية شراكة معه في هذا الصدد. والجدير بالذكر أن عام 2008 قد شهد حرباً روسية مع جورجيا، عندما اعتبرت موسكو أن الولايات المتحدة شجعت ودفعت جورجيا للابتعاد عن موسكو. وقد شجعت الأخيرة ودعمت حركات انفصالية في منطقتين في جورجيا رداً على سياسة جورجيا المعادية لموسكو.
واستمر التوتر في العلاقات الأوكرانية الروسية وساهم فيه إعلان موسكو عام 2014 عن ضم شبه جزيرة القرم. تصاعد التوتر الروسي الأوكراني تم احتواؤه من خلال اتفاقية مينسك عام 2014 التي لم تصمد. وحصل اتفاق آخر في مينسك عام 2015 ثبت الاستقرار من خلال منح حكم ذاتي لجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك القريبتين من موسكو. وكان ذلك بمثابة تكريس نفوذ لموسكو في أوكرانيا عبر هذه التسوية التي عملت على إنجاحها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. كما لعبت فرنسا وألمانيا دوراً أساسياً في تسهيل وإنجاح هذه التسوية.
وبعد انضمام 14 دولة كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي أو ضمن منطقة نفوذه إلى منظمة حلف شمال الأطلسي منذ عام 1997، رفعت موسكو أخيراً العلم الأحمر لتقول كفى، لقد طفح الكيل، أياً كانت مبررات الأزمة التي تحولت إلى حرب مفتوحة أخيراً.
موسكو تقول إن انضمام أوكرانيا وجورجيا أيضاً إلى الحلف الغربي ونشر أسلحة استراتيجية على حدودها المباشرة في هاتين الدولتين الأساسيتين هو بمثابة خط أحمر لن تسمح بتجاوزه.
وقد أعلنت موسكو عن شروطها لوقف الحرب وهي التالية: الاعتراف القانوني بأن شبه جزيرة القرم هي جزء من روسيا، والإعلان عن حياد أوكرانيا وتوفير الضمانات اللازمة لذلك، ونزع سلاح أوكرانيا.
الاعتراف بجمهوريتي لوهانسك ودونيتسك كجمهوريتين مستقلتين، جزء من لعبة التصعيد في الصراع الذي انفجر. وفي سياق لعبة التصعيد المتبادل والعقوبات الجاري فرضها على موسكو والتداعيات الاقتصادية الكبيرة أولاً على أوروبا وأيضاً على الاقتصاد العالمي، وبالأخص على اقتصاد الطاقة، أدت الأزمة إلى «إنعاش» منظمة حلف شمال الأطلسي ومعها الاتحاد الأوروبي على صعيد السياسة الخارجية والأمن والدفاع. وأدى هذا الوضع إلى إنعاش لغة ومفاهيم الحرب الباردة رغم التغير الكبير في الظروف بين الأمس واليوم.
ونحن اليوم أمام السيناريوهات التالية:
أولاً: ما يمكن تسميته النموذج القبرصي، وللتذكير هو ما قامت به تركيا من خلال إنشاء جمهورية قبرص التركية، تحت مظلة أنقرة التي لم يعترف بها العالم. قد تقوم روسيا في لحظة معينة من المسار الحربي بالانسحاب من تمددها العسكري في أوكرانيا ووضع مظلة أمنية فوق رأس هاتين الجمهوريتين، من خلال نشر قواتها فيهما واعتبارهما حقيقة قائمة، وفرض تقسيم واقعي في أوكرانيا، وبالتالي أزمة مستمرة إلى أن تنضج ظروف التسوية بشروط موسكو.
ثانياً: قد نشهد سيناريو شبيهاً بأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 بين الولايات المتحدة وروسيا التي قد تهدد بالتلويح باللجوء إلى السلاح النووي، إذا شعرت بأن حلاً سيفرض عليها بالقوة مما لا يسمح لها بتحقيق أهدافها الاستراتيجية الحيوية في أوكرانيا، الأمر الذي يدفع بقوة إلى التسوية كما حصل عام 1962 بين القوتين العظميين حينذاك، نظراً لمخاطر الدخول في المجهول. سيناريو صعب جداً الوصول إليه، نظراً للتفوق العسكري الروسي، ولكن لا بد من الإشارة إليه كون حصوله غير مستحيل.
ثالثاً: حالة التعب التي تصيب الجميع في لحظة معينة من تطور النزاع، ومعها تبلور القناعة بضرورة البحث عن تسوية تراعي مصالح الجميع، باعتبار أن غيابها يطال مصالح الجميع أيضاً.
ولكن ذلك يستدعي الوصول إلى ما يعرف بحالة التعب وانسداد الأفق لتحقيق النصر المطلق والبحث بمساعدة الوسطاء عن تسوية. ليس ذلك بالأمر السهل والسريع حصوله، ولكنه قد يتبلور مع الوقت كما علمتنا الكثير من الصراعات. والحل أو التسوية يكون بطبيعة الحال بتوفير الضمانات اللازمة بأن أوكرانيا لن تنضم إلى الحلف الأطلسي، والشيء ذاته بالنسبة لجورجيا حتى لا يتكرر السيناريو الأوكراني، وكذلك باعتماد سياسة الحياد من طرف أوكرانيا.
وقد يكون على شكل الحياد السياسي لفنلندا خلال الحرب الباردة مع بقائها في نظام «غربي» سياسي اقتصادي قريب للغرب، وهو ما عرف لاحقاً «بالفنلندة» للدلالة على هذا النوع من النظام الذي هو بمثابة تسوية تحظى بقبول القوى المتصارعة. ويمكن أيضاً استنباط صيغة تسوية ترضي الجميع مثل التشارك في السيادة فيما يتعلق بشبه جزيرة القرم في إطار نوع من التحييد. الخوف من استمرار التفاوض على أرض المعركة كما يقال لتحسين الموقع التفاوضي لاحقاً حول طاولة المفاوضات قد يتأخر وتزداد تكلفة المفاوضات. فاستمرار الحرب قد يؤدي إلى مزيد من التعقيدات التي تضعها على سكة المجهول.