بقلم - الدكتور ناصيف حتي
تشكل الحرب الأوكرانية الروسية والصراع الغربى الروسى الذى عكسته وكرسته هذه الحرب، لحظة ولادة نظام حرب باردة جديدة فى العالم بعد نهاية الحرب الباردة السابقة مع سقوط الاتحاد السوفياتى وتفككه وقيام ما عرف بلحظة الأحادية الأمريكية، التى من أهم مؤشرات نهاية تلك «اللحظة» انفجار الصراع حول أوكرانيا المستمر منذ عقدين من الزمن تقريبا من جهة وازدياد حدة الصراع الأمريكى الصينى فى منطقة المحيطين (الهادئ والهندى) بشكل خاص من جهة أخرى والذى عنوانه الأبرز تايوان. النظام الجديد الذى يولد لن يكون بالطبع فى صراعاته الاستراتيجية واصطفافاته وعقائده وعناوينه نسخة طبق الأصل أو إحياء للنظام السابق. ولكنه سيكون شبيها له من حيث طبيعة اللعبة الدولية وتأثيرها الوازن والناظم للنظام الدولى الجديد الذى سيولد ويستقر من خضم اللعبة الدولية السائدة تنافسا وتعاونا وصراعا.
كسبت أوروبا السباق مع منطقة المحيطين لتكون المسرح الأساسى لنظام الحرب الباردة الجديدة، كما كانت فى النظام الفائت، بين الغرب وروسيا وريثة الاتحاد السوفياتى، بعدما تصور كثيرون أن «مسرح المحيطين» سيكون المسرح الأساسى لتلك المواجهة. والجدير بالذكر فى هذا السياق أن المواجهة الغربية الروسية أعادت إحياء الحلف الأطلسى بقوة فيما يتعلق بدوره، بعد أن بهت ذلك الدور وأصيب بالتهميش الذاتى مع فقدان العدو السوفيتى وبدأ البحث فى إحيائه من خلال توسيع دوره ليشمل منطقة «المحيطين» مع تصاعد الصراع الصينى الغربى. وإلى جانب إحياء دور الحلف الأطلسى تمت عملية توسيعه من خلال انضمام فنلندا التى كان لها نظام خاص فى الحياد خلال الحرب الباردة حمل اسم «الفنلندة» للدلالة على هذه الخصوصية وتم الإعلان عن انضمام السويد الحيادية فى الماضى. وسيتم استكمال انضمامها بموافقة تركيا العضو فى الحلف على ذلك، والتى قامت بالخطوة الأولى نحو قبول انضمام السويد وربطت استكمال إجراء القبول بموافقة البرلمان التركى على هذا الانضمام بغية الحصول على تنازلات من قبل السويد تتعلق بسياسة هذه الأخيرة تجاه المسألة الكردية.
عام وأشهر سبع من الزمن مرت على انفجار تلك الحرب بعد أن فشلت محاولات احتواء النزاع عبر ما عُرف برباعى النورماندى (نسبة لمنطقة النورماندى فى فرنسا)، حيث انطلقت رسميا تلك المحاولات منذ حوالى عقدين من الزمن والتى ضمت كلا من روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا. مقترحات عديدة تبلورت بهدف التسوية السلمية لهذا الصراع المفتوح فى الزمان وربما أيضا فى المكان إذا لم يتم احتواؤه. أهم هذه المقترحات قدمتها الصين الشعبية وكذلك الاتحاد الأفريقى ولكنها لم تستطع الإقلاع عمليا حتى الآن، كما تدل على تلك التطورات الحاصلة فى ظل المواجهة العسكرية وكذلك فى مسرح المواجهة الدبلوماسية بين أطراف الحرب المباشرة وغير المباشرة فى المسرح الأخير. ما يعرف بحالة التعب الذى يصل إليها المتصارعون والتى تشكل اللحظة المنتظرة للتفاوض، لم تأتِ بعد فى الحرب الدائرة.
إذا استبعدنا بلوغ مسار التسوية فى الأفق المتوسط الأجل كما تدل على ذلك جميع المؤشرات فإن ما يجب استبعاده أيضا فى «لعبة» السيناريوهات الممكنة هو انتصار طرف بشكل كلى واستسلام أو انسحاب الطرف الآخر. فذلك من المستحيلات لأن هزيمة روسيا من جهة أو الغربيين وتحديدا الولايات المتحدة الذين يقاتلون روسيا بالوكالة بواسطة أوكرانيا من جهة أخرى فى هذه الحرب ستكون لها انعكاسات شديدة التكلفة على القوة المنهزمة: انعكاسات تتعلق بصورتها وبموقعها ووزنها ومصداقية مواقفها تجاه الحلفاء والأصدقاء الموجودين أو المحتملين فى النظام الدولى الذى يتشكل.
إن السيناريو الأكثر واقعية، إذا استبعدنا ما أشرنا إليه من انكسار كلى لطرف، قوامه الدخول فى ما يعرف بسيناريو الحرب الممتدة التى يمكن أن تشهد تصعيدا عسكريا أو بعض التهدئة مع استمرار الصراع بشكل متقطع من حيث حدته. إن سيناريو حرب استنزاف لتليين موقف العدو ودفعه لتخفيض مطالبه هو المرجح. وقد يشهد محاولات موسكو الذهاب نحو إعلان استقلال منطقة الدونباس والإصرار على «استرجاع» شبه جزيرة القرم باعتبار أنها كانت روسية فى الأساس وألحقها خروشوف بأوكرانيا فى زمن الاتحاد السوفيتى فى إطار تنظيم «داخلى» فى البيت السوفيتى، وهى ذات أهمية استراتيجية كبرى لروسيا. وقد نشهد ظل استمرار الصراع المفتوح واستقراره مع الوقت فى غياب أى أفق للحل توجه موسكو إلى اعتماد نموذج قبرص التركية بشأن منطقة الدونباس التى لا يعترف بها أحد وقيام نوع من جدار برلين بأشكال أخرى بين المنطقة التى تحتلها روسيا والمنطقة التى تخضع للسلطة الأوكرانية.
خلاصة القول إن الحل الوحيد الممكن التوصل إليه والذى يوفر الأمن والسلم الضروريين ويقفل ملف الحرب الدائرة هو الحل السياسى السلمى الذى يقوم على حفظ الوحدة الترابية لأوكرانيا بعيدا عن أى تقسيم. وقد يشمل إقامة نظام خاص لمنطقة الدونباس يأخذ بعين الاعتبار خصوصياتها الهوياتية المختلفة عن باقى أوكرانيا وقد يقام أيضا ترتيب خاص يحفظ مصالح موسكو الاستراتيجية والتاريخية فى منطقة شبه جزيرة القرم دون انفصالها عن أوكرانيا. أمور ليس من السهل تحقيقها طالما لم يتم التوصل إلى تفاهم شامل بين الأطراف الدولية الفاعلة والمؤثرة والمعنية فى مصالحها الاستراتيجية بالتسوية الشاملة المتوازنة التى تقوم على الاعتراف وعلى احترام المصالح الاستراتيجية لهذه القوى المؤثرة والمتأثرة بالمسألة الأوكرانية. والطريق إلى ذلك لا يمكن أن يمر من خلال انضمام أوكرانيا إلى منظمة حلف شمال الأطلسى بل عبر إقامة نوع من الحياد الخاص لهذه الدولة، التى تستطيع لاحقا أن تنضم إلى الاتحاد الأوروبى، متى استوفت شروط الانضمام، كجزء من سلة التسوية. ولكن تبقى تحت مظلة تفاهم غربى روسى مما يضمن ويحفظ التسوية السلمية لهذا الصراع المفتوح. خلاصة الأمر أن لحظة التعب عند الأطراف المعنية لم تحصل بعد وسيبقى الصراع قائما مع مختلف أنواع التصعيد والتجميد أو الاحتواء إلى أن يتعب المقاتلون ويذهبون نحو الحل السلمى الشامل.