بقلم - الدكتور ناصيف حتي
يزداد الخطاب الإسرائيلى، خطاب الحرب، حدة بأهدافه المرتفعة منذ اليوم الأول وغير القابلة للتحقيق كما تبين منذ شهرين ونيف من الحرب من جهة ويزداد العدوان الإسرائيلى على غزة عنفا واتساعا بهدف «تنظيف» شمال القطاع كليا من أهل غزة تحت عنوان التخلص من حماس وخلق المنطقة الآمنة المطلوبة كهدف أولى بالطبع ودفع السكان نحو جنوب القطاع لمحاصرتهم وبالتالى العمل على خلق الظروف الضاغطة لتهجيرهم لاحقا من جهة أخرى. يظهر هذا العدوان المتصاعد حجم المأساة التى يعيشها أهل غزة من جهة وحجم المأزق الإسرائيلى من جهةٍ أخرى من حيث عدم القدرة على تحقيق الأهداف المتوخاة والمعلن عنها فى حرب الإخضاع والإلغاء التى أطلقتها إسرائيل. أهداف استراتيجية صعبة التحقيق تترك تداعياتها أيضا على كل جوانب الوضع فى إسرائيل، إذ سيعانى الاقتصاد الإسرائيلى من ركود قوى نتيجة انهيار الاستثمارات الخارجية والخسائر الكبيرة التى أصابت القطاعات الاقتصادية الأساسية فى إسرائيل فى حرب تبدو مفتوحة فى الزمان وقد تتوسع فى المكان. ويرى أكثر من اقتصادى إسرائيلى أن السنة القادمة ستكون سنة قاتمة على هذا الصعيد.
عدم القدرة على تحقيق هدف إخضاع قطاع غزة كليا يرجح سيناريو دخول إسرائيل فى حرب طويلة أو ممتدة فى القطاع. الأمر الذى يدل على حجم المأزق التى وضعت إسرائيل نفسها فيه. لجوء الأمين العام للأمم المتحدة لاستعمال صلاحياته الخاصة الذى تمنحه إياها المادة ٩٩ من ميثاق الأمم المتحدة لتنبيه مجلس الأمن إلى الخطر الذى يهدد السلم والأمن الدوليين، لم يمنع الولايات المتحدة من استعمال حق النقض للإطاحة بمشروع القرار الذى دعا إلى «وقف إطلاق نار إنسانى فورى». وللتذكير فإن هذه الخطوة قد استعملت مرات قليلة فى تاريخ المنظمة الدولية فى الحالات التى وجد فيها الأمين العام للمنظمة الدولية أن هنالك أزمة حاملة لتهديدات كبيرة غير عادية إذا لم يتم احتواؤها، منها عام ١٩٨٩ بشأن لبنان وحدة الأزمة وتداعياتها الخطيرة التى كان يعيشها حينذاك.
البعض يقول إن واشنطن قد أعطت إسرائيل فترة زمنية محددة، هنالك خلاف حول مدتها بين أصحاب هذا الرأى، قاربت على نهايتها لإنهاء العملية العسكرية بحجمها وقوتها والتى لا يمكن أن تستمر بهذا الشكل. وبعدها سيجرى العمل على بلورة تسوية يجب أن تحفظ ماء الوجه للسلطة فى إسرائيل وأن تحقق لها أبرز أهدافها فى إضعاف ومحاصرة وتهميش دور حماس وإخراجها من اللعبة إذا لم يكن من الممكن كما هو واضح التخلص منها كليا، كما أعلنت إسرائيل عن ذلك فى اليوم الأول للحرب. الدعم الأمريكى لإسرائيل والموقف الذى يراوح بين الدعم والتفهم الأخذ بالتراجع ببطء وبسرعات مختلفة عند مجمل وليس كل القوى الأوروبية، ساهم ويساهم فى تعزيز سياسة التشدد الإسرائيلى. لكن ضغوطات الرأى العام الدولى ومخاطر انفجار الوضع بشكل كبير بأشكال مختلفة فى المنطقة من بوابة غزة تساهم فى بداية ما زالت خجولة عند هذه القوى المؤثرة بالموقف الإسرائيلى للدفع باتجاه وقف الحرب تحت عناوين مختلفة من أهمها هدنة إنسانية مفتوحة يجرى تعزيزها مع الوقت وذلك تلافيا لاستعمال تعبير وقف إطلاق النار.
يتواكب ذلك مع ازدياد سياسات تهويد الضفة الغربية على صعيدى الديمغرافيا والجغرافيا من خلال مصادرة الأراضى، تحت عناوين مختلفة منها إحداث تواصل جغرافى بين المستوطنات، وكذلك إقامة بؤر استيطانية زراعية جديدة وتصعيد واضح فى سياسات ترهيب السكان الفلسطينيين عبر أعمال العنف التى يقوم بها المستوطنون المدعومون من القوى الأمنية فى هذا الشأن. الأمر الذى يهدد بانفجار الوضع فى الضفة الغربية فى أى لحظة.
وفى سياق هذه التطورات بدأت إسرائيل بإعادة إثارة موضوع استكمال تطبيق القرار ١٧٠١ الخاص بلبنان عبر إخلاء المنطقة الواقعة بين الحدود ونهر الليطانى من أى قوة مسلحة غير الجيش اللبنانى وقوات اليونيفيل تحت عنوان عدم العودة إلى الوضع الذى كان قائما قبل السابع من أكتوبر. الوضع الذى كانت تنظمه قواعد الاشتباك التى تبلورت بعد عدوان صيف ٢٠٠٦. طبعا الرد من قبل لبنان الرسمى وكذلك حزب الله يعتبر أن إسرائيل لم تحترم تنفيذ القرار ١٧٠١ فى جميع جوانبه، ومن الأمثلة على ذلك اختراق الطيران العسكرى الإسرائيلى للأجواء اللبنانية بشكل متكرر والهجوم على سوريا عبر الأجواء اللبنانية إلى جانب كاميرات المراقبة على الحدود الموجهة نحو كل مناطق جنوب الليطانى. أضف أن هنالك مشكلة النقاط الثلاث عشر الحدودية الخلافية والتى يفترض تسويتها، وضرورة الانسحاب من شمال الغجر وتلال كفرشوبا وهى مناطق لبنانية إلى جانب الانسحاب من مزارع شبعا، رغم أن الأمم المتحدة لا تعتبر أنها تخضع للقرار ٤٢٥ الخاص بلبنان. استراتيجية «وحدة الساحات» التى أعلن عنها حزب الله فى بداية العدوان على غزة تساهم أيضا فى زيادة التعقيدات حول صعوبة العودة إلى الوضع الذى كان سائدا قبل السابع من أكتوبر.
ومن الواضح أن المطلوب بداية التوصل إلى وقف إطلاق النار فى غزة قبل البحث الفعلى والجدى ببلورة «قواعد اشتباك جديدة» على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. قواعد تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات التى أحدثتها حرب غزة فى الجبهات المشتعلة، عندما تتوقف هذه الحرب. متغيرات تدل على الترابط الفعلى والجديد فى بعض أشكاله وفى إدارته بين جبهتى غزة والجنوب مرورا بجبهة الضفة الغربية.
وإلى حين التوصل إلى ذلك، أى وقف الحرب فى غزة، ستبقى كل الاحتمالات قائمة بشأن جبهات القتال رغم اختلاف حدة هذه الحروب وطبيعة إدارتها، وستبقى المنطقة على صفيح ساخن وقابلة لحدوث سيناريوهات مستقبلية مختلفة، وذلك رغم الضغوطات الدولية لمنع حدوث حرب مفتوحة على الجبهة اللبنانية.