على مدار عقود... كان الشرق الأوسط، المكان الأكثر ازدحاماً بالأزمات والمستنبت النشط لإنتاج الحروب والصراعات، والموقع الجغرافي الذي ما كف عن استدعاء التدخلات الخارجية، وغالباً تحت شعارات لا صلة لها بالمنطق والواقع.
فلقد انقسمت أقوامه وكياناته بين تقدمي ورجعي، وثوري ومحافظ، وديمقراطي واستبدادي، وقد أنتج ذلك انقلابات عسكرية وحروباً بينية وأخرى أهلية، نزفت المنطقة جراءها معظم إمكاناتها وثرواتها وتوقف نموها، وصارت وهي المنطقة المهمة من كل النواحي، أكثر المناطق تخلفاً واستباحة.
العرب هم العائلة الكبرى من بين عائلات الشرق الأوسط، فهم أصحاب المساحة الجغرافية الأكثر اتساعاً والتعداد السكاني الأكثر كثافة، والأمة الوحيدة التي فيها مكونات عالم ذي ميزات وخصائص وحدوية ناجزة كاللغة والثقافة والتراث، والأعمق من ذلك؛ وحدة النبض والوجدان، وأذّكر بالإجماع العاطفي الذي تجلى في مونديال قطر.
ولقد تأسست في بلادنا أحزاب وتجمعات وتحالفات رفعت شعار الوحدة.
إلا أنها اتخذته غلافاً تسوق به أجنداتها السلطوية، وانقلاباتها وارتباطاتها ومصالحها الخاصة، وفي الزمن الذي تسيد فيه شعار الوحدة شهدت البلدان العربية أشد حالات التمزق والفرقة والاضطراب.
في الستينات من القرن الماضي، ولدت تجربة القمم المنتظمة والمتسلسلة كإطار وحدوي، تلتقي فيه الرسميات العربية وولدت معها تجارب وحدوية منيت جميعها بالفشل، وسجل التاريخ المعاصر حقيقة أن هذه الأمة ما دخلت حرباً إلا وخسرتها، وما كسبت حرباً ولو بمقاييس جزئية ملتبسة، إلا وبددت نتائجها في السياسة، لتضيف إلى الواقع العربي انقسامات جديدة وصراعات أكثر حدة ومأساوية.
القمم العربية السابقة حققت إنجازاً وحيداً؛ وهو الحفاظ على ما سمي النظام العربي ووظيفته توجيه رسالة للعالم بأن هنالك إطاراً وحدوياً ومؤسسة رسمية هي الجامعة العربية، غير أن هذا الإطار ظل مقتصراً على رمزية محدودة الفاعلية، فلا الدول العربية استفادت منه ولا العالم اعتمده عنواناً يصلح للتعامل معه، ولا الشعوب العربية عوّلت عليه مرجعية تمتلك قدرة عملية على حل الإشكالات العربية - العربية.
في أيامنا هذه انعقدت القمة التي تحمل الرقم اثنين وثلاثين، في ظرف إقليمي ودولي استثنائي، تشتعل فيه حرائق عديدة في العالم العربي، وأخرى وإن بدرجات متفاوتة في دول الإقليم الشرق أوسطي، ونشأت شراكة أزمات وحروب وأوبئة وزلازل توغلت فيها دول غير عربية (إيران وتركيا وروسيا وأميركا وإسرائيل)، وقبل أن تهدأ نيران الشرق الأوسط، اشتعلت نار أوكرانيا حيث العالم كله عانى ولا يزال من عصفها وتأثيراتها المباشرة، وظهر مصطلح يقول إن نظاماً دولياً جديداً، قيد التشكل وسيتبلور على ضوء خلاصات الحرب الأوكرانية - الروسية، والجديد فيه تكريس الصيني قطباً مقابلاً للأميركي بعد الانزياح الروسي عن قطبيته التقليدية زمن الاتحاد السوفياتي. وهذا التغيير الإقليمي والكوني، طرح على العرب سؤالاً كبيراً: أين أنتم من الحالة الراهنة، واحتمالاتها المستقبلية؟
وأين الشرق الأوسط؟ وأي مكانة أو دور له في النظام الدولي الجديد؟
التطورات المتسارعة ورغم غموض مآلاتها النهائية حتى الآن، أنتجت مساحة كافية لولادة شرق أوسط أو كمشروع قطب جديد، فلقد تراخت القبضات التقليدية للدول العظمى التي كانت تمسك بأعناق الدول والنظم، وتفرض عليها تبعية تنعدم من خلالها مساحات استقلالها وتقرير سياساتها المنطلقة من مصالحها.
لقد اختلف الوضع كثيراً عما كان عليه زمن الحرب الكونية الباردة، واستقطاباتها الحادة وحتى زمن القطب الواحد، وكذلك زمن الاقتحام الصيني، وتمدده وحاجته للطاقة والأسواق وأمن المصالح التجارية.
وفي وضع كهذا انفتحت أمام العرب، وشرقهم الأوسط مساحة موضوعية لتطوير حضورهم في منطقتهم المهمة أولاً، وفي العالم الذي تزداد احتياجاته لهم دائماً.
قمة جدة، ينبغي ألا تكون مجرد لقاء تقليدي أو استنساخ لنمطية القمم التي سبقت، إنها وقد سبقها تحضير متقن هدف إلى إطفاء بؤر الاشتعال في عالمنا العربي والإقليم، تحتم أن تكون مخرجاتها العملية نوعية يبنى عليها وضع جديد للعرب ودول المنطقة.
المكان الذي تنعقد فيه مؤهل لإحداث ذلك، والزمان الذي نحن فيه يتطلب ذلك، والقضية المركزية «الفلسطينية»، والقضايا العربية جميعها... تحتاج ذلك.