بقلم _ نبيل عمرو
نقل السياسيون المحترفون في إسرائيل صراعهم العنيد والشرس إلى أروقة النظام السياسي، فحظي رئيس الدولة بمكانة ودور الراعي للحوار، مع احتفاظ كل طرف بسلاحه، فأغلبية الكنيست واصلت العمل لإنجاز تشريعات إشكالية، رغم التعليق المؤقت لأصل المسألة وهو «قانون الإصلاح القضائي».
وواصلت المعارضة استعمال الشارع للضغط من أجل تحويل التعليق المؤقت إلى إلغاء نهائي… وعلى هذا يجري الحوار ولا أحد يعرف يقيناً ما سينتج من خلاصات.
الائتلاف الحكومي كان الخاسر الأكبر، نظراً لتناقص تأثيره في الشارع وعزلته عن الدعم الدولي التقليدي، وخصوصا دعم ولي الأمر الأعلى (البيت الأبيض)، الذي اتخذ موقفاً منحازاً للمعارضة، من خلال إبطاء عملية تتويج نتنياهو في واشنطن، وتبني مبادرة رئيس الدولة التي رفضها الائتلاف الحكومي، وأدانها باعتبارها صادرة عن طرف في الصراع، وليس عن رئيس الجميع.
ميزان القوى الداخلي، والإدارة الأميركية ليست بعيدة عنه، يميل لمصلحة المعارضة، ما أفقد نتنياهو صوابه، خصوصاً بعد أن تراجعت الإدارة الأميركية عن دعوته التي أعلنها سفيرها في تل أبيب، ليدخل في خلاف علني معها، مؤنباً الرئيس بايدن (الذي يتعدى على استقلالية إسرائيل وحريتها في اتخاذ القرارات التي تنبع من داخلها وليس من أي جهة خارجية)!!
ولأن السياسة الداخلية في إسرائيل لعبة تجري على رمال متحركة، فالذي لم يدركه نتنياهو بعد، هو أن حركة الرمال أزاحته عن مكانته التي كان فيها ملكاً، ووضعته في مكانة أضعف، سواء داخل معسكره أو على مستوى إسرائيل كلها. إذ لأول مرة يتفوق عليه نجم المعارضة بيني جانتس في استطلاعات الرأي، ويتراجع حزبه (المنضبط) حتى الآن عشرة مقاعد في الانتخابات العامة لو جرت هذه الأيام.
نتنياهو يتغذى على رصيده الذي كان عصياً على التآكل فيما مضى، ويتصرف كما لو أنه ما يزال سيد اللعبة واللاعبين، يواصل سياسة تعمق مأزقه، وتستنزف رصيده، فما إن خسر ولو جزئياً معركة إصلاح القضاء، فتح على نفسه معركة أخرى، وهي شراؤه رضا بن غفير، على حساب وحدة منظومة الأمن، بأن منحه ميليشيا خاصة به، ما عدّ إمعانا في تمزيق مؤسسات الدولة، والتصرف بها لحساب مصالحه الخاصة… ألم يسترض سموترتش بأن قسم وزارة الدفاع للحصول على أصوات نوابه؟ ولا يستبعد أن يواصل التمزيق كلما احتاج إلى شراء ولاء أي من أقطاب ائتلافه، الذين يستغلون حاجته لهم بجشع وجرأة، بلغت حد المساس بأساسات الدولة.
من عادة نتنياهو كلما واجه مأزقاً أن يدهن نفسه بطبقة من الزئبق ليعبر أكثر الممرات ضيقاً وصعوبة.
غير أن ما وصلت إليه الأمور في إسرائيل لا يكفيه كل ما في الكون من زئبق كي يتغلب عليه.
لاعبٌ محليٌّ ثالث، جلس على مقاعد المتفرجين، مقاطعاً الحراك الشعبي، إلا من مشاركات متفرقة تكاد لا تُرى، هو العرب الفلسطينيون داخل إسرائيل.
ومع ظهور تفسيرات متعددة، لأسباب هذه المقاطعة، إلا أن ما هو قريب من الإجماع تبلور خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
إذ شعروا بأنهم مستبعدون عن أهداف الحراك، من خلال استبعاد قضيتهم ومطالبهم… معظمهم عدّ عنوان الاحتجاجات الشعبية (القضاء) غير مقنع لهم وغير منصف. والديمقراطية التي تتعارض مع واقع اللامساواة، الذي يعانون منه، ويناضلون لرفعه. إضافة إلى عامل أكثر عمقاً وفاعلية، وهو تضامنهم مع أبناء جلدتهم الفلسطينيين، الذين لم يرفع ولو شعار واحد يدعو إلى إنهاء احتلالهم.
اللاعبُ الفلسطينيُّ، الذي يصل عديده إلى مليونين، أي خُمس سكان الدولة، لا يجلس على مقاعد المتفرجين، من قبيل الترف واللامبالاة، بل لتجسيد حقيقة سياسية تلفت النظر إلى مطالبهم، من خلال تساؤل الآخرين عن سبب مقاطعتهم للحراك الواسع… فهم وإن كانوا أقلية في الحياة الإسرائيلية العامة، إلا أنهم لا يقبلون أن يكونوا مجرد معاونين لمتظاهرين أو مستودع أصوات، يغرفُ منه المتنافسون في موسم الانتخابات.
حتى الآن تبدو مباراة الملاكمة بين اللاعبين المحليين بعيدة عن الحسم النهائي… بالنقاط أو القاضية.
الا أن ما هو ظاهر بوضوح حتى الآن، أن إسرائيل تقف على مفترق طرق، لم يحسم أمر إلى أي اتجاه تذهب أخيراً، ولنستذكر دائما نظرية الرمال المتحركة، التي تتحكم باللعبة واللاعبين.