بقلم: نبيل عمرو
أدت حروب القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط وأوروبا إلى أن تعيد كل الكيانات المتأثرة بها حساباتها الداخلية والتحالفية. في حروب الشرق الأوسط التي اصطلح على تسميتها «الربيع العربي»، كان العامل الأساسي - إن لم يكن الوحيد - في أمر الغرق أو النجاة هو الوضع الداخلي لكل دولة، فمن كان وضعه الداخلي متيناً نجا، ومن كان غير ذلك غرق. وها نحن نرى واقع الحال بعد سنوات طويلة من ذلك الربيع المستمر.
قبل أن تضع حروب الشرق الأوسط أوزارها أو تخلص إلى تسويات، فوجئ العالم باندلاع حرب في قلب أوروبا. وإذا كان مجالها العسكري المباشر هو أوكرانيا، فإن عصفها أصاب العالم كله، وجعل مليارات البشر في حالة رعب، بدءاً من الخوف على لقمة العيش، وانتهاءً بالمس بخطط التنمية.
الحرب الراهنة في أوروبا غير مقروءة النتائج النهائية، وكل ما يقال في هذا الصدد هو محض تقديرات واستنتاجات، قد تثبّتها تطورات الميدان العسكري والتفاعلات السياسية والاقتصادية، وقد تنفيها. ومع عدم وضوح الخلاصات المحتملة لهذه الحرب، فإن تعامل الدول معها منذ اليوم الأول اتخذ مسارات معظمها قسري، لم تكن في حسابات وخطط الدول بصورة مسبقة، إلا إذا كان توريط روسيا في حرب استنزاف مكلفة هو خطة أميركية مبيتة ومدروسة الخطوات.
في منطقتنا، الحرب الراهنة حملت فرصاً لو أُحسن استخدامها فستنتج مكاسب كبيرة لم تكن متاحة عبر كل مراحل التاريخ الحديث، ولنؤرخ لها بطغيان النفوذ الأميركي، ومعاناة حلفاء أميركا من سوء إدارتها لهذا الطغيان. كانت معادلة العلاقات كما فرضتها الدولة العظمى على من تسميهم حلفاءها في أوروبا والشرق الأوسط أحادية الجانب، بمعنى أن المصالح والسياسات وحتى المغامرات الأميركية هي الأساس، وعلى الجميع أن يتبع من دون نقاش، فالربح لأميركا والخسارة يتقاسمها الحلفاء.
وحتى حين كانت الدولة العظمى تخسر حروبها المباشرة، كان تعويضها مضموناً من جيوبها التي لا تنفد، وجيوب الحلفاء.
الأمر وفق المعطيات الأولية للحرب الراهنة تغير على نحو كبير، إذ انفتح المجال واسعاً أمام قيام الحلفاء بدور فعال لتصويب العلاقات، ورفعها إلى مستوى معقول من التوازن بين المصالح، وبقدر معقول من الاستقلالية والشراكة، على نحو مختلف عما كانت الأمور عليه، أي التبعية بلا نقاش.
الحرب الراهنة فرضت على كل المتأثرين بها إعادة النظر في سياساتهم الأمنية والإنتاجية والتحالفية كذلك، فلولا الحرب الراهنة لما فكرت كل الدول في البدائل، ولما اضطرت لاكتشاف أهمية إنتاج القمح مثلاً، بعد الانصراف إلى تأسيس المفاعلات النووية وإنتاج الصواريخ المجنحة، والإنفاق الخيالي على الصعود إلى الكواكب البعيدة. ألم تكن خطط حرب النجوم الأميركية أحد أسباب الانهيار المروع للاتحاد السوفياتي؟
السياسة هي فن انتهاز الفرص، ووفق هذا المبدأ يتحدد ميزان الربح والخسارة، وبمقتضاه يكسب الأذكياء الذين يحسبون قراراتهم ورساميلهم، ويخسر الأغبياء الذين يعتاشون على «الكوميشن» كما تعتاش الديدان على المخلفات.
يقال أن نظاماً دولياً جديداً سوف ينشأ بعد هذه الحرب، ولعل الأدق من هذا المصطلح المتداول أن علاقات جديدة ستدخل إلى النظام القديم، ولننتظر حتى نرى كيف ستكون الصورة على ضوء نتائج الحرب، وحتى نرى كذلك كيف ينتصر القمح والنفط على الصواريخ المجنحة والذرَّة.