بقلم - نبيل عمرو
لو كانت هنالك جائزة نوبل للصبر والمثابرة وضبط ردود الفعل... لحصلت عليها مصر بجدارة في معالجاتها لحروب إسرائيل على غزة.
ففي كل المعالجات السابقة، صبرت على إسرائيل، التي لم تتعامل بصدقية معها... ولا أقول بشرف، ولم تكن إسرائيل تتعاون بقدر من الإيجابية، إلا حين تجد نفسها مضطرة لذلك ولم تكن لتفي بتعهداتها إذا ما وقع بين يديها صيد تراه ثميناً، وواقعتا اغتيال «الجعبريين» في غزة تؤكدان ذلك. لم تنقطع شعرة مصر مع إسرائيل في أمر احتواء الحروب، ومنعها من التطور لتبلغ حد التدمير شبه الشامل لغزة، ولإسرائيل سوابق مشهودة فلم تنجُ الأبراج من التدمير، وهي تعد أحد أعمدة اقتصاد القطاع المحاصر. ولم تنجُ الخدمات من الانقطاع، فالكهرباء كحمى المعري ولكنها لا تزور حتى في الظلام. في كشف الحساب ولنصفه بالأولي، كسبت مصر واستحقت الثناء.
حركة «الجهاد الإسلامي» كانت رغم خسائرها على صعيد قيادات الصف الأول الميداني، تصدرت المشهد، ووضعت جميع الفصائل الأكبر منها في خلفيته.
في اليوم الأول وما سبقه من أيام، كانت حركة «الجهاد» توصف بالمنظمة الصغيرة، وعلى مدار أيام الحرب، صار التعامل معها كمركز للقرار عن الجانب الفلسطيني.
مقياس الكسب بالنسبة لـ«الجهاد الإسلامي» هو أن تظل على قيد الحياة، وأن تمتلك القدرة على فتح المعارك وإغلاقها، وهذا ما حدث.
الأميركيون... تابعوا الحرب وشعارهم المعلن تأييد إسرائيل في دفاعها عن نفسها، غير أن حساباتهم الحقيقية تطلبت وقفاً سريعاً لإطلاق النار ودعماً مباشراً للجهد المصري نحو التهدئة، مع تصريحات تنطوي على انتقاد للتصعيد، ولكن بلغة الحذر الأميركية المعروفة، لهذا كانت الإدارة أول من بادر إلى تهنئة المصريين بالنجاح، ذلك أن ما تسعى إليه من ترتيبات على غرار العقبة وشرم الشيخ يتطلب هدوءاً.
السلطة الفلسطينية... هنالك قاعدة ترقى إلى مستوى المبدأ... هي أن اشتعال حرب بين غزة وإسرائيل وسخونة الحالة بين الفصائل المقاتلة في الضفة، حيث لا سيطرة للسلطة، ينتج نزفاً متسارعاً في المكانة والدور وحتى الصدقية، وفي الجولة الأخيرة كانت السلطة غائبة تماماً عن المشهد حتى التشاور البروتوكولي معها انعدم تماماً هذه المرة، ما أظهر أن الحرب التي تجري على أحد مكونات شرعيتها، بدت كما لو أنها تقع في كوكب آخر، حتى إن بعض رموزها قال بصريح العبارة: «ما دام الانقسام قائماً فلا دخل لنا بما يجري».
فوق النزف المستمر الذي ينتجه غياب الأفق السياسي والذي يجري نفيه كل يوم، وتلاحق الأزمات الداخلية التي لا حل لها، والإمعان الإسرائيلي في التعامل معها كما لو أنها مجرد وكيل أمني مقابل بعض التسهيلات، كل ذلك وسع الهوة القائمة أصلاً بين السلطة والجمهور المفترض أنها تمثله أو تحكمه، وهذه أفدح خسارة بكل المقاييس.
أما إسرائيل فدائماً ما يكون اليوم الأول في حروبها على غزة مختلفاً كثيراً عن اليوم الأخير. في اليوم الأول تسيّد نتنياهو المشهد، وتصرف كما لو أنه استعاد ثبات عرشه المتداعي، ونجح في تحويل مسار الرأي العام الإسرائيلي من مسألة الديمقراطية والقضاء إلى مسألة الأمن. غير أن مجريات الواقع شوشت كثيراً على الإنجاز «المؤقت». صحيح أن المُسَيَّرات الأربعين نجحت في قتل 3 قادة فلسطينيين وأسرهم، لكن الصحيح الأهم أن غزة ظلت معضلة لا حل لها، وأن «الجهاد الإسلامي» التي كانت مشروع تصفية تعززت مواقعها، وأن مشهد قتل الأطفال تكرّس في العالم كجريمة حرب مكتملة الشروط، وصار بوسع غزة أن تقدم نفسها ككف مقتدر يقاوم «المخرز التكنولوجي المتفوق» وهذا ليس لمرة واحدة، بل منذ أول حرب حتى آخر حرب، والقادم فيها دائماً ينتظر خلف الباب!
هذا هو كشف الحساب عن حرب تواصلت 5 أيام بلياليها وإذا كان ميزان القوى التقليدية يميل بصورة كاسحة إلى جانب إسرائيل، حيث القدرة المتفوقة على التدمير وإراقة الدماء، فإن ما يقابل ذلك وليس في الأمر أي شطط أو مبالغة، أن معضلة احتلال إسرائيل لشعب آخر تتواصل، ومنجل غزة والضفة والقدس يظل عالقاً في حلق إسرائيل، فلا هي قادرة على التخلص منه لا بلفظه ولا بابتلاعه، وهذه هي الخلاصة الدائمة لحروب إسرائيل على الفلسطينيين.