بقلم: داود الفرحان
ستمر قرون وقرون لن ينسى فيها الأجداد وأحفادهم في العراق أن أكبر دولة في العالم خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين، واسمها الولايات المتحدة، شنت حربين عالميتين على دولة قامت فيها أولى الحضارات البشرية السومرية والآشورية والبابلية والأكدية والعباسية قبل أن يغزوها رعاة البقر والفرس في سنوات كبيسة وما هي بكبيسة.
هذا التاريخ لن يُنسى بزمانه ومكانه ورجاله وحسناته وسيئاته. لقد قادت الولايات المتحدة قوات قوامها 200 ألف جندي بري وبحري وجوي وفضائي بلا تفويض من الأمم المتحدة، وفي ظل احتجاج العالم المسالم ومظاهرات عمت العواصم تندد بالحرب غير الشرعية وغير المتكافئة. زعم الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، في تبرير حملته غير المسبوقة، «أن العراق خطط على مدار عقود لتطوير جمرة خبيثة وغاز الأعصاب وأسلحة نووية». وأكد وزير دفاعه دونالد رامسفيلد: «إننا نعرف أين أسلحة الدمار الشامل... إنها في المنطقة حول مدينة تكريت والعاصمة بغداد وشرقها وغربها وجنوبها وشمالها». وأعقبهما توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، مؤكداً أن «العراق يطور أسلحة الدمار الشامل، ويهدد بها شعبه وشعوبنا إذا أتيح له تطوير مثل هذه الأسلحة». وقوبلت هذه الحرب بمعارضة شعبية كبيرة في الولايات المتحدة ودول العالم الأخرى. وأعلن الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، عن معارضته الشديدة لتلك الحرب، ما أدى إلى توجيه أوامر أميركية عليا إلى ثلاثة مطاعم في مجلس النواب الأميركي لتغيير اسم البطاطس المقلية «الفرنسية» في قوائم الأطعمة التي تقدمها إلى بطاطس «الحرية»!
وفي حينها قال السيناتور باراك أوباما، الذي صار رئيساً للولايات المتحدة في وقت لاحق، «لا أعارض جميع الحروب، بل أعارض الحرب الغبية؛ حرب لا تتأسس على سبب، بل على الرغبة، لا مبدأ لها».
شهدت سنوات الغزو الأميركي للعراق، الذي تحول إلى احتلال «كامل الأوصاف» من عام 2003 إلى 2011، مئات المعارك من جنوب العراق إلى شماله، مروراً بوسط البلاد شرقاً وغرباً في إطار مقاومة الاحتلال. وامتلأت السجون والمعتقلات العراقية بآلاف الأبرياء، أولها سجن «أبو غريب»، حيث ارتكب جنود الاحتلال ومجنداته أسوأ الفظائع في التعذيب والتنكيل والإذلال.
ولم يسكت العراقيون الوطنيون على هذا الكابوس الثقيل. في عام 2004 جرت معركة الفلوجة الأولى غرب بغداد بين المسلحين المتحصنين في هذه المدينة والجيش الأميركي في محاولته الأولى لاقتحامها والسيطرة عليها بعد أن تم قتل أربعة من قوات المرتزقة من شركة «بلاك ووتر» الأمنية المتعاقدة مع وزارة الدفاع الأميركية. وتكبد الجيش الأميركي خسائر جسيمة بلغت مئات القتلى، في حين قتل من قوات «بلاك ووتر» للمرتزقة الأجانب أكثر من 1000 عنصر، دفعت جورج بوش الابن إلى أن يقول: «لقد واجهت قواتنا أسبوعاً قاسياً، وأنا أصلي كل يوم من أجل أن تتراجع الخسائر».
من خصال الفلوجة وأهلها أنها إحدى المدن التي لم يحدث فيها نهب وسلب عند بدء احتلال العراق مثلما حدث في مدن أخرى، بضمنها العاصمة بغداد، واستخدم المقاومون تكتيك حرب العصابات بنصب الكمائن واللجوء إلى الكر والفر. إلا أن الجنود الأميركيين حوّلوا سجن «أبو غريب» إلى مَسلخ لأبناء وآباء الفلوجة، وانتشرت في معظم صحف العالم صور نقلت مشاهد التعذيب الوحشي ما أثار غضب المنظمات الإنسانية في العالم.
أما معركة الفلوجة الثانية، التي حملت اسم «الفجر»، فكانت ذروة معارك المقاومة في السنة الأولى للاحتلال الغاشم، وشاركت فيها قوات أميركية وبريطانية وبعض الوحدات العسكرية العراقية المستحدثة بعد حل الجيش العراقي الوطني، وقد استعان الجيش الأميركي بمشاة البحرية الأميركية لإخماد نيران المقاومة.
ومناسبة هذا الحديث عن الفلوجة ما أعلنه وزير البحرية الأميركية الحالي كارلوس ديل تورو، يوم 13 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، أن «الفلوجة» هي الاسم الذي تم اختياره لحاملة الطائرات الأميركية العملاقة التي ستتولى بناءها شركة بناء السفن الأميركية بطراز مستقبلي، المعروفة باسم «هنتنغتون إينغلس للصناعات»، بعقد تبلغ قيمته مليارين وأربعمائة مليون دولار. وذكر الوزير أن «إطلاق اسم (الفلوجة) على السفينة العملاقة جاء لإحياء ذكرى المعركتين الأولى والثانية في مدينة الفلوجة اللتين شارك فيهما مشاة البحرية الأميركية ضد (عدو مصمم) تمتع بكل مزايا الدفاع في منطقة حضرية مدنية».
حدثت معركتا الفلوجة في أبريل (نيسان) ونوفمبر (تشرين الثاني) عام 2003، وكانتا رداً أميركياً على عمليات مقاومة لم تهدأ منذ بدء الغزو الأميركي في أبريل 2003، في محاولة للقضاء على المقاومة العراقية وإحكام السيطرة على المدينة. لقد شنت الولايات المتحدة وقوات التحالف الهجومين واسعي النطاق ضد هذه المدينة الباسلة، مستخدمة ترسانتها الحربية من صواريخ عابرة للقارات وقنابل عنقودية وجيش متخم بالدبابات والمدفعية الثقيلة وأنواع الطائرات، بما فيها القاصفة الاستراتيجية العملاقة «بي 52».
وقد وصفت التقارير الاستخبارية الأميركية، تلك المعارك، بأنها «أكثر الاشتباكات دموية في حرب العراق، وأشرس قتال شوارع شارك فيه مشاة البحرية الأميركية منذ معركة مدينة هيوو في حرب فيتنام في 1968 من القرن الماضي التي لقي فيها أكثر من 100 من القوات الأميركية مصرعهم وجرح أكثر من 600 آخرين».
ارتكبت القوات الأميركية أبشع الانتهاكات في المعركتين داخل الفلوجة، مستهدفة المدنيين من الرجال والنساء والأطفال والمؤسسات الصحية والمساجد. وعدَّ الأميركيون تلك المعركتين «أكبر اندحار» عسكري وسياسي للجيش الأميركي، وأصبح حديث الولايات المتحدة كلها، وقادتا بعد ذلك إلى تقهقر عملياتها ضد بقية المدن العراقية.
يبلغ سكان مدينة الفلوجة ونواحيها المرتبطة بها نحو مليون نسمة، وأغلبهم من عشائر «البو علوان والمحامدة والفلاحات والحلابسة والجبور والبو نمر والبو فهد». وقد نُكبت المدينة وأطرافها بعدة هجمات طائفية من قبل الميليشيات الموالية لإيران و«الحشد الشعبي»، وتم تفريغها من غالبية رجالها وسوقهم إلى معتقل سري في منطقة تدعى «جرف الصخر» جنوب بغداد تحت سيطرة الميليشيات منذ أكثر من عشر سنوات، وفيها أكثر من مقبرة سرية، وغير مسموح بزيارتها من قبل أهالي المعتقلين، وترفض إدارة المعتقل، وبينهم إيرانيون من «الحرس الثوري» التابع لـ«فيلق القدس»، السماح لأي مسؤول عراقي بزيارة المعتقل، بضمنهم رئيس الوزراء ووزيرا الدفاع والعدل وشخصيات أجنبية.
وقوبل الحدث البحري البارز بموجة انتقادات من قبل الصحافة الأميركية المستقلة والمنظمات الحقوقية الداخلية وصلت إلى اعتبار المعركتين «عاراً على بلادهم». وذكرت صحيفة «كومن دريمز» الأميركية، أن النقاد باشروا بمهاجمة الوزير الأميركي لأن المعركتين كانتا «عاراً على أميركا وتجاوزاً أخلاقياً على العراق وشعبه». وأضافت الصحيفة: «إن المعارك التي أظهر المارينز فيها (شجاعة) كانت مجرد مجازر استهدفت المدنيين العراقيين»، مؤكدة أنه «في معركة الفلوجة الأولى قتلت القوات الأميركية 600 مواطن عراقي، نصفهم من النساء والأطفال. وفي معركة الفلوجة الثانية قتلت قوات المارينز ما بين 581 و670 مواطناً عراقياً، بينهم نساء وأطفال، في تسعة أحياء سكنية». أما صحيفة «ذا إنترسبت» فقد أكدت «أن إحدى أبشع الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب ضد البشرية ارتكبتها القوات الأميركية في الفلوجة، وهذا لا يعبر إلا عن عدم شعور الولايات المتحدة بالعار عن المجزرة التي اقترفتها».
ووصفت صحيفة «كومن دريمز» المعركتين بأنهما «عمل مشين، لأن المدنيين في الفلوجة لا يزالون يعانون من الآثار المدمرة للمجزرة التي شنتها القوات الأميركية ضدهم مع انخفاض نسب المواليد بسبب الأسلحة المحرمة دولياً التي أسقطتها الطائرات الأميركية على منازلهم».
مهما يكن فإن الحاملة الأميركية «الفلوجة» ستعيد تذكير العالم عبر البحار والمحيطات بحجم الجرائم البشعة التي ارتكبتها الولايات المتحدة تحت رئاسة جورج بوش الابن ضد العراق وشعبه.
... رحم الله شهداء العراق.