بقلم - داود الفرحان
كثيراً ما نسمع عن «المنطقة الرمادية» في السياسة، ونستطيع أن نقول إنها «منطقة الظل»، أو حرب «خلف النافذة» أي غير مباشرة وغير تقليدية مثل الضغط الاقتصادي والتهديدات المغلفة واستخدام كيانات غير حكومية (الميليشيات مثلاً) بدلاً من عدوان مباشر أو حرب أو مقاطعة بحيث لا تتجاوز عتبة السلام إلى الحرب.
المثال الحي الأول هو كوريا الشمالية وصواريخها الباليستية في المحيطات والبحار، وهي الهواية المفضلة للزعيم الكوري كيم جونغ أون لتخويف كوريا الجنوبية. وهو بهذا لا يحارب، لكنه يسير في الظل؛ فالتهديد ليس عدواناً، وإطلاق صاروخ في الفضاء البحري ليس حرباً، إنها المنطقة الرمادية التي لا يمنع القانون الدولي الوقوف فيها في انتظار الذي يأتي أو لا يأتي.
المثال الحي الثاني عن المنطقة الرمادية هو إيران التي احتلت أربع دول عربية هي العراق وسوريا ولبنان واليمن من دون حرب أو جيش، لكن باستخدام كيانات إيرانية إرهابية غير حكومية رسمية كـ«فيلق القدس» وأكثر من خمسين فصيلاً مسلحاً من جنسيات مختلفة. وتعمدت التضليل «الديني» بتسمية مراجع أو رجال دين إيرانيين أو أفغان أو باكستانيين لإصدار فتاوى في كربلاء والنجف وغيرهما من مدن جنوب العراق. وتستخدم طهران أسلحة غير حكومية وصواريخ وعبوات ناسفة ومُسيرات بلا طيارين سواء في العراق أو سوريا أو لبنان أو المنطقة الانفصالية الحوثية أو في العدوان على دول الخليج العربية أو السفن وناقلات النفط في مياه الخليج العربي.
نظرياً لا تخوض كوريا الشمالية أو إيران أي حرب مباشرة مثل الحرب الروسية - الأوكرانية أو الحرب العراقية - الإيرانية في الثمانينات من القرن الماضي. لكن اللعبة مكشوفة سواء في السطور السابقة أم في قتل وإعدام وسجن المتظاهرين الإيرانيين في شوارع طهران والمدن الكبرى، ومعظمهم من النساء والفتيات الصغيرات والشباب الذين ثاروا على هذا النظام الإرهابي الظلامي والقمعي.
وكثيراً ما تلجأ الدول الكبرى إلى المنطقة الرمادية في ردود فعلها كما تفعل الولايات المتحدة في تعاملها مع النظام الإيراني، حيث لجأت منذ سنوات إلى «حرب رمادية» اقتصادية بفرض عقوبات ليس لها تأثير مباشر على الحلقات الأعلى في النظام بقدر ما تضيف أعباءً على عامة الناس. وتستغل الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا وغيرها حروب المنطقة الرمادية، وهي غامضة ونقطة ضعف مكشوفة تختلط فيها المفاهيم والتفسيرات، إزاء الدول السلطوية والمنظمات الإرهابية.
وفي أبريل (نيسان) الماضي أعرب الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون عن «قلقهما» إزاء التحديات المتزايدة في المنطقة الرمادية ووعدا بإجراءات أكثر فاعلية. ودائماً تقع هذه المنطقة في المسافة بين الحرب والسلام، ولا تصل إلى مستوى الصراع المسلح إلا نادراً، وتتم باستخدام وكلاء بما في ذلك منظمات إرهابية تنفذ عمليات عدوانية غامضة يمكن إنكارها لعدم وجود أدلة. ويرى الخبراء مثل الكولونيل البريطاني ريتشارد كيمب أن هذه الأنشطة تلجأ إلى السلاح السيبراني والفضاء والإنترنت والدعاية الرقمية والطائرات المسيرة بدون طيار والابتزاز واحتجاز رهائن أو سفن أو ناقلات نفط أو التجسس. والمناطق الرمادية ربما تكون دبلوماسية أو إعلامية أو اقتصادية وقد تصل إلى الحاجز العسكري في اشتباكات الحدود أو الخلجان والبحار أو الطائرات الذاتية (الدرون).
لقد تمادت الولايات المتحدة وامتدت سيادتها إلى دول مستقلة ذات سيادة تحت توصيف «المنطقة الرمادية» واعتقلت أعداداً كبيرة من الأفغان وجنسيات أخرى وساقتهم إلى سجن غوانتانامو في قاعدة حربية أميركية داخل منطقة رمادية في دولة مستقلة ذات سيادة اسمها كوبا!
أطلق وزير الدفاع البريطاني السابق بن والاس على المنطقة الرمادية تعريف: «الأرض المبعثرة بين الحرب والسلام». وليس شرطاً أن يكون هذا التوصيف لدولة معينة من جهة معادية أو على شفا الحرب، بل يمكن إطلاقه من دول أخرى أو حتى من شعب الدولة المعنية نفسها بسبب فقدان سيادتها وصراع السياسيين فيها على السلطة مثل ليبيا والعراق ولبنان والصومال وسوريا وأفغانستان وإيران.
وفي كل الأحوال لا تطلق تسمية المناطق الرمادية على الحروب أو السلام فقط، فالمياه العكرة في بحر الصين الشرقي - مثلاً - بين الصين واليابان تسمى المنطقة البحرية الرمادية بسبب صراع البلدين الخافت على ملكية ثماني جزر غير مأهولة مساحتها 7 كيلومترات مربعة، ويُقال إن النزاع الرمادي بينهما بسبب حقول الغاز والنفط. ودخلت الصين وتايوان أسوار المنطقة الرمادية بالأسلحة الاقتصادية والثقافية والسياسية والدبلوماسية، وهي أسلحة سلمية وليست حربية. والطريف أن الخلاف الرمادي بين البلدين حالياً يدور حول فواكه الأناناس وتفاح السكر وتفاح الشمع ونجوم الموسيقى والتلفزيون!
بعد شهر واحد من بدء الحرب الروسية على أوكرانيا صرح الرئيس الأوكراني زيلينسكي بأنه يشعر بأن بلاده تقع في المنطقة الرمادية بين روسيا والغرب! وهو غير محق في ذلك لأن الغرب وقف خلفه وأمامه ومعه في الدفاع عن أوكرانيا. هذه جملة اعتراضية على المفهوم العشوائي للمنطقة الرمادية.
ومن الأمثلة الحديثة البارزة في هذا المجال الضربة الصاروخية الأميركية في بداية عام 2020 عند أسوار مطار بغداد الدولي ضد قائد «فيلق القدس» الإيراني الإرهابي قاسم سليماني الذي كان يمارس عمله، يا للمفارقة، في المنطقة الرمادية سواء في إيران أم سوريا أم لبنان أم العراق!
في دراسة عسكرية أميركية عن الصراع من أجل السلام الدائم تم التأكيد على تمسك الولايات المتحدة بما يعرف بالظل الأميركي في الحروب الرمادية بما في ذلك عمليات معقدة في فترتي الحرب والسلام، وهو ما دفع رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة السابق الجنرال جوزيف دانفور إلى الاعتراف قائلاً: «نحن بالفعل متأخرون في التكيف مع الطابع المتغير للحرب الحديثة من نواحٍ كثيرة، وقد لاحظت هيئة الأركان المشتركة أن نموذج الحرب الكبيرة ألقى بظلاله على فهمنا وأدى إلى عدم نجاحنا في العراق وأفغانستان».
وبشهادة الرئيس الأميركي بوش الأب فإن المخابرات الأميركية تلجأ إلى تجنيد مرتزقة وعملاء دمويين ليس في المنطقة الرمادية فحسب وإنما في الاستراتيجية العسكرية الأمنية العالمية تحت شعار مكافحة الإرهاب. ويعني ذلك على وجه التحديد بلدان العالم الثالث وشعوبه، وخصوصاً الدول العربية والإسلامية.
المنطقة الرمادية باختصار: أساليب سرية وتشويه وتضليل وتخريب ودعاية رديئة وزرع الارتباك في الجانب الآخر.