بقلم - داود الفرحان
هل حقاً أن القوات الروسية «عالقة» في مواقعها الحالية، كما يروّج ميخايلو بودولياك مستشار الرئيس الأوكراني، أم أنها كما قال رئيس الاستخبارات الخارجية الروسي سيرغي ناريشكين: «مستقبل روسيا ومكانتها المقبلة في العالم على المحك»؟ في وقت مبكر من الحرب، شدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أن «احتلال الأراضي الأوكرانية ليس خطتنا، ونحن لا ننوي فرض أي شيء على أحد بالقوة».
وثبت بعد نحو 4 أشهر من الحرب أن أياً من هذه التصريحات لا علاقة له بالحقيقة المرّة، وهي أن هذه الحرب واحدة من أفشل الحروب التي ذهب المدنيون ضحايا لها أكثر من العسكريين.
وبدا بعد شحة الغنائم أن على الرئيس بوتين قبول قائمة محددة للغاية في نهاية الحرب، مهما كانت الخسائر في هذه الجبهة أو تلك، وأن اللجوء إلى الأسلحة النووية سلاح ذو حدين؛ أفضلهما كارثي، وأن المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا لن يكتب لها النجاح ما دامت بندقية موسكو موجهة صوب رأس كييف. وأن أي اتفاقية لوقف إطلاق النار تعني «تجميد الصراع» إلى جيل آخر، إذا لم يتم إعادة تأشير الخرائط ووضع النقاط على الحروف.
بوتين رئيس أحد قطبين دوليين، وهو لا يبحث عن خاتم سليمان، لكنه بلا شك يحنّ إلى خريطة الاتحاد السوفياتي كلما جاءت سيرة ستالين، كما يحنّ العرب إلى بلاد الأندلس كلما سمعوا موشحات أندلسية. وطبقاً لما نستخلصه من تصريحات بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف وقياداته العسكرية فإن موسكو لا تقبل بأنصاف الحلول أو «المخدر الموضعي» بعد كل التضحيات والعقوبات والخسائر، وهو لا يقبل «نصراً» طعمه لا يختلف عن الخسارة، ولا نقول «الهزيمة». وكذلك الرئيس الأوكراني لا يتحمل توصيفه برئيس دولة «خسر شعبه ووطنه». ومثل هذا الموقف قد يحتاج دعاء من أجل وقف الحرب وعودة السلام العادل.
لقد تناول الأساتذة كُتّاب صفحات «الرأي»، طوال الأشهر الأربعة الأخيرة، مختلف زوايا وتطورات الحرب الروسية - الأوكرانية بالتحليل والتفسير والتوقعات. وهو موضوع يفرض نفسه، ليس على «الشرق الأوسط» وحدها، وإنما على جميع صحف العالم وقنواته الفضائية بمختلف اللغات.
زلماي خليل زاد من السفراء الأميركيين الذين تركوا بصمات واضحة في السياسة الأميركية منذ انهيار برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 2001. وقد نشر مقالاً مؤخراً عن الأزمة الأوكرانية في موقع مركز «ناشيونال إنترست» الأميركي الذي أسسه الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون في عام 1994. حكم فيه على الرئيس الروسي بوتين بالفشل في ساحة المعركة شرق أوكرانيا وميناء ماريوبول، وأن الكرملين «تسبب في إحراج روسيا بسبب المقاومة الأوكرانية الشرسة المستمرة». وأورد السفير السابق قناعاته بأن «حسابات بوتين خاطئة، سواء في توقيت الحرب أو ردود فعل الولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي».
ووضع زلماي خليل زاد 3 خيارات أمام الرئيس الروسي؛ الأول استمرار الأسلوب الحالي للحرب، «على أمل» تآكل الروح المعنوية الأوكرانية والقضاء عليها بمرور الوقت وتعب الغرب من دعم أوكرانيا. أي أن «الحرب الروسية تسير على نهج قائم على الأمل»، أو أن يقرر بوتين خيار «التصعيد» بضم دونباس، على غرار شبه جزيرة القرم أو توجيه ضربة نووية محددة تستهدف أوكرانيا أو دولة من دول الناتو أو الولايات المتحدة، أو يقبل الرئيس الروسي خياراً ثالثاً وهو «تسوية سياسية».
لقد كانت ميزة زلماي خليل زاد في 2001 أنه أفغاني الأصل ويميز معظم الإرهابيين الأفغان من أسمائهم أو ألقابهم. لكنه حين كُلف تولي كرسي السفير الأميركي في بغداد (2005 – 2007) في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن بلغ الصراع الطائفي أوجه، وخاصة خلال تولي نوري المالكي رئاسة الوزراء. وكان يشجع إقليم كردستان على الانفصال بحكم صداقته مع الرئيس العراقي الأسبق جلال طالباني، وشارك في الإشراف على الاستفتاء الكردي في أربيل لانفصال الإقليم الذي لم يرَ النور بسبب رفض العراق وإيران وتركيا. لكن الرجل لم يترك بصمات في العراق، وطغت دبلوماسيته على المناخ الطائفي والحرب الأهلية آنذاك.
ندع العراق الآن المشغول بالفراغ الدستوري وما يسمى «الانسداد السياسي» بعد استقالة نواب التيار الصدري و«انسحاب» مقتدى الصدر، ونعود إلى الآراء المتضاربة بشأن الحرب الروسية - الأوكرانية، فهي تخلط الأوراق. وقديماً قال أحد الأمثال: «ما الذي جعل نابليون عظيماً، وجعل هتلر طاغية، وكلاهما لا يجيد سوى الغزو وإشعال الحروب؟ إنهم المؤرخون وأشياء أخرى. احصل على مؤرخ سياسي... تحصل على تاريخ جيد».
وقال الرسام الإسباني الشهير سلفادور دالي: «لم تؤذِ الحروب أحداً إلا الذين يموتون». وقالت روز كيندي والدة الرئيس الأميركي الأسبق جون كيندي: «عندما تتورط في الحروب، عليك أن تفكر كيف ستخرج منها». ونجح فعلاً ابنها الراحل في الخروج من حرب نووية كانت على وشك أن تندلع على ساحل كوبا في عام 1962 حين كان خروشوف رئيساً لوزراء الاتحاد السوفياتي.
استخدم بوتين كل الكلمات في القواميس، لكنه لم يستخدم كلمة «الانسحاب» حين جلس مقابل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على مسافة 6 أمتار إلى طاولة بيضاوية ضخمة مطعمة بأوراق الذهب وسعرها 100 ألف يورو، وكانت سُلمت إلى الكرملين في عام 1995 بعد أن أنجزتها شركة إيطالية لحساب الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين. ومما لم ينشر عن هذه الطاولة العملاقة أن بين زبائن الشركة الإيطالية الرئيسين الراحلين صدام حسين ومعمر القذافي. لكننا ربما ابتعدنا عن الموضوع.
في حرب مثل هذه بين كييف وموسكو يحتار الكاتب أو المعلق بين الكم الهائل من الأخبار التي لا تتآلف ولا تنسجم. فالسرية طاغية على ما يُعلن.
نحن على عتبة الشهر الخامس من الحرب الملتهبة، والإعلام الروسي ما زال يسميها «عملية عسكرية خاصة» ويمنع استخدام كلمة «الحرب». وقالت صحيفة «إندبندنت» البريطانية إن الحقيقة هي «أولى ضحايا» الحرب الروسية. وفي المقابل، تحرص وسائل الإعلام الأوكرانية على تضخيم الخسائر الروسية. فعلاً التضليل الإعلامي مكشوف هنا وهناك، من المقابر الجماعية إلى استخدام الأسلحة الكيماوية وخطف الأطفال واستسلام الجنود من الطرفين. أخبار لا يوجد ما يؤكد صحتها أو تلفيقها أو تزييف مشاهدها. وفي كل الحروب يحدث هذا التشويش في إطار الحرب النفسية. ومع ذلك، فإن معظم المعلقين يحاولون مجاراة الأخبار قدر الإمكان وعدم الوقوع في فخاخها، ولذلك تكثر كلمة «هل» في العناوين، وهي هنا تشبه جملة شائعة «ناقل الكفر ليس بكافر».
ستنتهي هذه الحرب في يوم ما ونكتشف أن كثيراً مما قلناه أو توقعناه مبالغ فيه أو ليس صائباً. هذه حرب مختلفة عن غيرها، ونتائجها قد لا تتسق مع أسبابها، ولو عادت الساعة إلى الوراء لما جرى ما جرى من رعب وتدمير وقتل وتهجير. وستكون أنفاق القطارات شاهداً حياً على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان؛ قد نأخذ منها العبرة والدرس وقد ننسى ونعيدها مرة أخرى ونحن نضحك من امتداد طاولة بوتين وماكرون وحوار الطرشان بين الاثنين.