بقلم - جمعة بوكليب
الحرب الدائرة حالياً في قطاع غزة، بين القوات الإسرائيلية وحركة «حماس» رفعت على نحو سريع من درجة التوتر السياسي في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم. وخلال أيام قليلة من اندلاعها، لم تهمش فقط الاهتمام الدولي بما يحدث على جبهات الحرب الأوكرانية - الروسية، بل حجبت كذلك الاهتمام بواحدة من أهم الانتخابات النيابية في أوروبا هذا العام، ونقصد بذلك الانتخابات النيابية التي جرت في بولندا، يوم الأحد الماضي. الانتخابات وصفت بأنها الأهمُّ منذ خروج بولندا منذ سقوط النظام الشيوعي عام 1989، كونها جرت بين قوتين سياسيتين تختلفان في الموقف من الهوّية البولندية؛ الأولى ممثلة في الحزب الحاكم: حزب «القانون والعدالة»، الذي يرى هوّية بولندا في ارتباطها بتراثها المسيحي الكاثوليكي وقيمه، كما تعبر عنه الكنيسة الكاثوليكية، والمحافظة على الثقافة والتقاليد والروح البولندية الموروثة. والثانية ممثلة في تيار ليبرالي أوروبي التوجه، يقوده الائتلاف المدني، ويراها في تعزيز وتقوية الارتباط بالديمقراطية، والانفتاح على العالم. أهميتها تعود أيضاً إلى التحالف الغربي ضد روسيا في أوكرانيا. ذلك أن عودة حزب «القانون والعدالة» إلى الحكم يعني خلق صدع مؤلم وموجع في جدار الموقف الموحد المضاد للاجتياح الروسي لأوكرانيا، بعد أن منعت حكومة وارسو تسويق وبيع القمح الأوكراني في بولندا، بسبب تأثيره السلبي على مزارعي القمح البولنديين، كما أوقفت إمدادات السلاح البولندي والذخيرة والعتاد إلى أوكرانيا. أوكرانيا من جانبها اعتبرت وقف مبيعات شحنات القمح في أسواق بولندا عملاً معادياً سياسياً، ومخالفاً للقانون الدولي، ورفعت شكوى ضد بولندا إلى منظمة التجارة العالمية. وفي رد فعل مقابل، أعلنت حكومة بولندا وقف إرسال شحنات السلاح والعتاد المرسل إلى كييف من الدول الحليفة.
النتائج النهائية لتلك الانتخابات، قضت على آمال حزب «القانون والعدالة» اليميني الحاكم في مواصلة حكم بولندا لأربع سنوات أخرى، تضاف إلى الأعوام الثمانية السابقة، وفي الوقت ذاته، أعادت الائتلاف المدني الليبرالي وحلفاءه إلى الواجهة السياسية، كما عززت الآمال في أوكرانيا، على اعتبار أن حكومة وارسو الجديدة، بقيادة دونالد تاسك، لن تتخلى على كييف، وستعود بولندا إلى موقفها الداعم والمساند للقوات الأوكرانية في حربها ضد روسيا. والأهم أنها أشاعت البهجة والفرح في بروكسل، وأعادت الطمأنينة إلى قيادة الاتحاد الأوروبي، على أمل إغلاق ملفات التوتر في العلاقة مع وارسو، بخروج حزب «القانون والعدالة» من الحكم، مما يعني البدء فورياً في ترميم وفتح جسور الود مجدداً بينهما. بروكسل اعتبرت انتصار تاسك مهماً كونه جاء بعد انتصارات انتخابية حققها شعبويون وقوميون في بلدان أوروبية أخرى.
كان هناك خوف في بروكسل ووارسو من أن تؤدي الانتخابات إلى فوز حزب «القانون والعدالة»، مما سيفضي حتماً إلى تمادي قيادة الحزب اليميني الشعبوي في الابتعاد ببولندا عن الخط الليبرالي الغربي، ومواصلة السير حثيثاً لتلحق بالمجر. إلا أن حسن الحظ حالف تيار المعارضة بقيادة دونالد تاسك، بفشل حزب «القانون والعدالة» في الحصول على أغلبية برلمانية تضمن تفرده بالحكم، رغم حصوله على أعلى نسبة من الأصوات (37 في المائة). ذلك الفشل سوف يمنح السيد تاسك والأحزاب المعارضة فرصة تشكيل ائتلاف من ثلاثة أحزاب يحظى بأغلبية برلمانية، تتيح تشكيل حكومة بقيادته.
السيد دونالد تاسك، ليبرالي معروف، وواحد من أهم قادة «حركة التضامن»، التي قادت بولندا إلى التخلص من الحكم الشيوعي، في أواخر الثمانينات من القرن الماضي. وكان رئيساً للحكومة في الفترة ما بين 2007 - 2015، كما شغل منصب رئيس المجلس الأوروبي. وتعهّد بسرعة إعادة تعزيز العلاقة مع بروكسل، ووعد بإعادة استقلالية القضاء، والتخلص من القوانين المناوئة للديمقراطية، بخاصة التعديلات التي أُدخلت على قانون الانتخابات، بما يضمن تعزيز الديمقراطية. ترميم العلاقة مع بروكسل يدخل ضمن الأولويات، كونها تضمن الإفراج عما قيمته 35 مليار يورو مخصصة في ميزانية الاتحاد لبولندا، وأوقفت نتيجة رفض حكومة حزب «القانون والعدالة» إلغاء التعديلات التي أدخلها على قانون القضاء، ونزعت استقلاليته، والتعهد أيضاً بعدم التخلي عن أوكرانيا، ومواصلة الدعم والمساندة.