بقلم -جمعة بوكليب
أخيراً، وعبر وسائل الإعلام الغربية، عرفنا أن ربيع أوكرانيا المنتظر قد حَلَّ، كما هو متوقع، وظهرتْ بوادرُه في مدينة باخموت. القوات الروسية المحتشدة في تلك الجبهة، منذ شهور، بهدف احتلال المدينة، كانت أول من استشعر حضوره، وذاق طعمه الناري. فاضطرت إلى الانسحاب، تحت ضغط هول قذائف الدبابات، وأعداد القوات الأوكرانية المهاجمة.
على عكس ما ورد في البيانات الصادرة من وزارة الدفاع الروسية في موسكو حول الهجوم الأخير، وعلاقته بهجوم الربيع المتوقع، نفت حكومة كييف أن يكون هجوم قواتها مؤخراً، في جبهة باخموت على القوات الروسية، بداية لهجوم الربيع المرتقب، وهو أمر متوقع. أليست الحقيقة أولى ضحايا الحرب؟
لندع البيانات الصادرة عن الطرفين المتقاتلين جانباً، ونقترب من ميادين المعارك. اتفقت وسائل الإعلام الغربية والروسية في هذا الشأن، ربما للمرّة الأولى، أن أكثر من ألف مقاتل أوكراني، مصحوبين بأربعين دبابة، داهموا بغتة المواقع الروسية، في باخموت، وأجبروا القوات الروسية، تحت هول نيران مكثفة، على إخلاء مواقعهم، والانسحاب مسافة كيلومترين وأزيد.
الحرب الدائرة في الأراضي الأوكرانية بين قوات حكومة كييف وقوات حكومة موسكو، تدخل منعطفاً آخر، في مسيرتها التي تجاوزت أربعة عشر شهراً. ومصطلح هجوم الربيع الأوكراني، الذي لم تكف وسائل الإعلام الغربية عن ترديده، طوال الشهور الأخيرة، يعني، في حالة بدئه فعلياً، انتقال المبادرة من أيدي القوات الروسية إلى أيدي القوات الأوكرانية. هي إذن مرحلة أخرى من مراحل حرب ضارية لم تشهدها القارة الأوروبية العجوز منذ 1945، ووضعت السلام الدولي في مهب الريح. وما زالت نيرانها تزداد أُواراً. ولم يظهر على السطح، حتى الآن، ما يشي بأنّها تقترب من خط النهاية. العادة جرت أن الحروب هي من تختار نهاياتها. مهمةُ الجنرالات العسكريين تتلخص في أن يكونوا شهود عيان على تلك النهايات. وحين تحدث ينزعون قبعاتهم عن رؤوسهم المتعرقة، ويعودون إلى مواقعهم التي خرجوا منها، إما بنية الغزو، أو بعزم الدفاع. عقب ذلك، تأتي مرحلة دفع الفواتير المؤجلة والباهظة. هذا ما خبرناه من كوارث حروب سابقة.
وسائل الإعلام الغربية ليست محايدة في هذه الحرب، وتقف بقضها وقضيضها مع أوكرانيا. ووسائل الإعلام الروسية ليس معروفاً عنها وثوق الصلة بالحقيقة. وفي المابين تضيع الحقيقة، أو بالأحرى تُغيّب عمداً وفي وضح النهار. لكن ما لا يستطيع الطرفان تغييبه، هو أن لا أحد منهما، سواء في كييف أو في موسكو، يعلم على وجه الدقة النهاية الأخيرة التي ستؤول إليها الحرب. ومن منهما أخيراً سيرتقي أكوام الأنقاض والخرائب وجثت الضحايا، ويرفع راية النصر عالياً، أو يلوح براية التسليم والهزيمة؟
عندئذ، يأتي دور المؤرخين، ويبدأون السجال والجدال بأنواعه. ويعود اللاجئون والمشردون والنازحون إلى قراهم ومدنهم. الموتى فقط من يخرجون من معادلة حسابات نهاية الحرب، ويتحولون إلى أرقام في إحصاءات تحفظ في الأراشيف. وهذا أيضاً تعلمناه من تجارب وكوارث حروب سابقة.
المفارقة، أن يقترن اسم فصل الربيع، بما يحمله من معانٍ تنحاز إلى الحياة والخصوبة والجمال، بالموت والدمار في جملة واحدة: هجوم الربيع!!
المفارقة الأخرى، أننا تعلمنا أن الربيع لا يأتي مهاجماً، بل يأتي طلقاً مختالاً وضاحكاً.