بقلم - جمعة بوكليب
السّلامُ، في هذه الأوقات، يشبه عُملة البيتكوين. فنحن نسمع بالعُملة في وسائل الإعلام، ونتابع تطورات أسعارها، هبوطاً وصعوداً، لكن لا نراها. وسائلُ الإعلام الدولية، منذ بداية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، نشرت تقارير تؤكد أن السّلام حطَّ رحاله، مؤخراً، في إثيوبيا.
وصولُ السّلام إلى إثيوبيا، يعني حرفياً وضع نهاية لواحد من أسوأ النزاعات المسلحة وأكثرها دموية: آلاف القتلى والجرحى. وملايين المشرّدين والنازحين واللاجئين. تقارير المنظمات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان تؤكد ارتكاب الطرفين المتنازعين جرائم حرب فظيعة، وتطالب بمحاكمة المسؤولين عنها. المعاركُ الحربية بين قوات جيش التحرير الشعبي التيغراني وقوات حكومة أديس أبابا استمرت عامين كاملين -الحربُ بدأت في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2020- واحتدام المعارك كان على مرأى ومسمع من دول العالم، واستُخدمت فيها كل أنواع الأسلحة المعروفة، وتواصلت بين كرٍّ وفرٍّ، حتى وصول الطائرات التركية المُسيّرة إلى قوات الحكومة الإثيوبية، فانقلبت الموازين. ووجد التيغرانيون أنفسهم محاصرين من مختلف الجهات، وتحت رحمة خصومهم. الطريق الوحيدة التي تبقت مفتوحة أمامهم كانت تقود فقط باتجاه التفاوض مع حكومة أديس أبابا، وتؤدي إلى رفع الحصار والمعاناة عن ستة ملايين نسمة من الشعب التيغراني، وهو الشرط لكي تُفتح البوابات أمام قوافل شحنات الإغاثة من الغذاء والدواء إلى الإقليم، وعودة الكهرباء والاتصالات، وبدء الحياة.
اتفاق وقف إطلاق النار الدائم بين الخصمين، وُقّع في مدينة بريتوريا، العاصمة الإدارية لجنوب أفريقيا، يوم 2 من الشهر الجاري، بعد مفاوضات شاقة استمرت لمدة عشرة أيام، تحت إشراف من الاتحاد الأفريقي، والرئيس النيجيري السابق أولوسيغون أوباسانجو. وتعهد الطرفان باحترام الاتفاق وتنفيذ بنوده.
أبرز تلك البنود: سماحُ الحكومة الإثيوبية بدخول قوافل الإغاثة بالطعام والأدوية، ورفع الحصار عن سكان إقليم تيغراي، وإعادة الاتصالات والمواصلات بين الإقليم وبقية البلاد والعالم. وتعهد التيغرانيون بتسليم السلاح وتسريح القوات. واستناداً إلى تقارير إعلامية، فإن قوافل الطعام والأدوية لم يُسمح لها بدخول الإقليم إلا بعد مرور ثمانية أيام على توقيع الاتفاق. لكنها وصلت، وهو المطلوب. ووصولها مؤشر إيجابي.
من المؤسف أن انشغال وسائل الإعلام الدولية بتطورات الحرب بين أوكرانيا وروسيا، حرم السلام العائد إلى إثيوبيا مما يستحقه من تغطية إعلامية، ولا يماثله في التجاهل إلا تقاعس الأسرة الدولية عن التدخل لوقف الحرب منذ بدايتها.
ويبقى من المهمّ الإشارة إلى الدور الذي لعبته الإدارة الأميركية في وقف الحرب من خلال الضغط على الطرفين المتنازعين لقبول التفاوض، وتقديم تنازلات، ثم تهديدهما بفرض عقوبات في حالة عدم احترام الاتفاق. أهمُّ التنازلات التي قدمتها حكومة رئيس الوزراء آبي أحمد تمثل في موافقتها على طلب جبهة التحرير الشعبي التيغراني بضرورة خروج القوات الأجنبية من إثيوبيا، في إشارة إلى القوات الإريترية المشاركة في الحرب ضد التيغرانيين. إريتريا كانت طرفاً مشاركاً في الحرب مع الحكومة الإثيوبية، ولم تكن طرفاً مشاركاً في اتفاق وقف إطلاق النار، الأمر الذي يثير ريبة كثير من المعلقين السياسيين حول احتمال صمود اتفاق وقف إطلاق النار من عدمه، خصوصاً أن حكومة أسمرة، بقيادة الرئيس آسياس أفورقي، لم تُصدِر بياناً بموقفها منه. إريتريا دخلت الحرب بهدف التخلص من التهديد الذي كان يمثله لها التيغرانيون. وموقفها من الاتفاق لن يتضح إلا من خلال كيفية تعاملها مع البند الخاص بسحب قواتها: بالرفض، أو بالتأجيل والمماطلة، أو بالقبول.
التيغرانيون هدفهم من الاتفاق رفع الحصار عن شعبهم، والتسريع بالإغاثة الغذائية والدوائية، في حين أن الحكومة هدفها التسريع بالحصول على إعانات من صندوق النقد الدولي وغيره من المنظمات المالية الدولية لانتشال الاقتصاد الإثيوبي من أزماته. وكذلك سعيها لإضعاف الجبهة التيغرانية عسكرياً.
رئيس الحكومة آبي أحمد وصف الاتفاق بأنه ضخم، وتعهد بتنفيذه، وشكر قوات الحكومة على شجاعتها وما قدمته من تضحيات. كما شكر الشعب على دعمه وصموده في الامتحان الصعب.
إلا أن الامتحان الصعب والحقيقي، الذي لم يشر إليه السيد آبي أحمد، لا يتمثل في محنة الحرب وهي بطبيعتها قاسية جداً. الامتحان الصعب حقّاً هو امتحان بناء السّلام وتوطيده في العقول والقلوب. وهو امتحان أكثر تعقيداً، من محنة الحرب. الحروب تبدأ بقرار وتتوقف بقرار. أما السّلام فهو عملية تدريجية مركّبة تستغرق زمناً، وتشترط توفر النيات الطيبة من الأطراف المتنازعة، والعمل معاً على تحقيقه.
في ليبيا، هناك اتفاق وقف إطلاق نار منذ قرابة ثلاثة أعوام. لكن السّلام المأمول لا وجود له بعد. وما زالت أبجدية لغته لا تجد قبولاً في العقول والقلوب ولا تتلفظ بها الألسنة. وما زالت العداوة والأحقاد تضرم نيرانها، وخطاب الكراهية يستأثر بالنصيب الأكبر من المساحات المخصصة في وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي. وما زالت الثقة معدومة بين الأطراف المتصارعة، والتحشيد العسكري مستمراً على الجبهات. وفعلياً، ما زالت ليبيا منقسمة شطرين متعاديين.