بقلم - جمعة بوكليب
الفرق بين كتابة المذكرات والسيرة الذاتية، استناداً إلى محرك البحث «غوغل»، أن الأولى المقصود بها رغبة الكاتب في مشاركة خبراته وتجاربه مع القراء، والمقصود بالثانية كتابة سيرة حياته.
الأستاذ الصديق عبد الرحمن شلقم، الكاتب والصحافي والسياسي المخضرم، انحاز إلى كتابة المذكرات. وأصدر، في الفترة الأخيرة، كتاباً بعنوان «سنواتي»، عن «دار نشر الفرجاني» بطرابلس. وحسب علمي، فإنَّ مذكراته المنشورة تعدّ الأولى من نوعها في ليبيا، التي وُضعت بين أيدي القراء الليبيين والعرب. إذ لم يبادر أحدٌ قبله، من رجالات العهد السابق، بتقديم شهادته. وبذلك، سَنَّ سُنّةً حميدة، نأمل أن تشجع آخرين على اقتفاء أثره.
مذكراتُ السياسيين عموماً متميزة، وتختلف بالضرورة عن غيرها، لاقتران التاريخ بالسياسة، لكن من وجهة نظر شخصية، عبر سرد تفاصيل التجربة السياسية الشخصية. وبالطبع، يؤخذ في الاعتبار اختلاف الأهداف. فهناك من أهل السياسة مَن ينحو إلى كتابة ونشر المذكرات لتقديم شهادة شخصية في حوادث معينة، ولغرض تبرئة نفسه من المسؤولية وإلقائها على كاهل آخرين. ومنهم مَن ينحو إلى توضيح مواقف أدت إلى تغيير في مجريات أمور بتداعيات كبيرة سياسياً، ويقدم الأسباب... إلخ. فما هي أهداف الأستاذ شلقم من كتابة ونشر سنواته المديدة التي قضاها في نظام العقيد القذافي؟ هل القصد، مثلاً، تبرئة نفسه مما أُرْتُكبَ من فضائح ومجازر وكوارث وفساد؟ أم بغرض توضيح ما خفي من أسرار، أحاطت بكثير من الأحداث، بتسليط الضوء عليها، وإجلاء خفاياها؟
الأستاذ عبد الرحمن شلقم، عقب انهيار النظام العسكري عام 2011، أصدر كتابين متتاليين. الأول بعنوان «أشخاص حول العقيد»، والثاني بعنوان «نهاية القذافي». الكتابان لاقيا انتشاراً جماهيرياً كبيراً، خصوصاً الأول منهما، كونه سعى إلى كشف الغطاء عن أشخاص وُجدوا قرب العقيد القذافي. الكتاب كُتبَ بلغة الإثارة الصحافية، وبشكل ملحوظ. وكأن الأستاذ شلقم كتبه برغبة ربما يفسرها البعض بالانتقام من أولئك الأشخاص المذكورين فيه.
الكتاب الأخير: «سنواتي - مذكرات» كُتب بلغة هادئة، لا مكان فيها للغضب. وجاء سلساً وماتعاً في أسلوبه، خالياً من شوائب الكتابين السابقين، ومسلّطاً الضوء على جوانب كثيرة، وفي الوقت ذاته تجاهل، للأسف، التعرّض لأحداث أخرى أخطر وأهم.
المؤلف تعمّد في كتابة مذكراته أن ترك لنفسه الحرية في الانتقال بين الأحداث، من دون مراعاة التسلسل الزمني، مما أوقعه، أحياناً، في فخ التكرار.
لدى انتهائي، من قراءة الكتاب أخيراً، انتابتني حيرة، مبعثها إحساس تولد لديَّ، بأن المذكرات، وعلى غير المتوقع - وهذه وجهة نظري - كتبت بحسابات دقيقة، لحاجات، وليس لحاجة فقط، في نفس الأستاذ شلقم. وبذلك، فإنَّ ما ضمّه الكتاب بين دفتيه، في رأيي الشخصي، بدا وكأنه رواية سيرية أخرى، عن حياة العقيد معمر القذافي. حتى إنني، في بعض الأوقات، أحسست بأنه كان من الأفضل لو اختار الأستاذ شلقم عنواناً مختلفاً لكتابه. كأن يسميه، مثلاً، «ذكرياتي مع العقيد القذافي». وفي نظري، فإن المؤلف بدل أن يكتب شهادته، ويكشف خفايا ما كان يدور في دهاليز النظام الخفية، نحا، في معظم فصول الكتاب، إلى رصد وتوثيق علاقته الشخصية بالعقيد القذافي، وتجنّب أن يكون الكتاب شهادة موثقة لمرحلة طويلة نسبياً ومهمة في تاريخ ليبيا، يكتبها رجل كَبُرَ، سِنّاً وشأناً، في أروقة النظام، وتولى أرفع المناصب، وتورط في أخطر المهام. اللافت، أن الأستاذ شلقم سعى إلى تقديم العقيد القذافي في ثوب أغلبه ناصع البياض، وكأنه ليس العقيد القذافي الذي عرفه الليبيون والعرب والعالم. بل وحرص أحياناً على إيجاد المبررات لكثير مما ارتكبه من كوارث، إما بتجاهل التعرض لها كلية، أو بتخفيف تأثيراتها، وهذا أولاً.
وثانياً، شعرتُ، لدى انتهائي من قراءة المذكرات، بأن المؤلف هدف من كتابتها ونشرها، في هذا الوقت تحديداً، إلى ترميم ما سببّه من تصدعات في جدار علاقاته مع رجال النظام السابق. وبدا لي، وأتمنّى أن أكون مخطئاً، وكأنه يعتذر، بشكل غير مباشر، عن مواقفه التي اتخذها في انتفاضة فبراير (شباط) عام 2011. حيث تجاهل كلية التعرض لخفايا تلك الفترة، حين كان في نيويورك، مندوباً لليبيا لدى الأمم المتحدة، واتخذ قراراً بالانضمام لانتفاضة فبراير 2011. والدور الخطير الذي لعبه في أروقة الأمم المتحدة، وكان سبباً في صدور قرار مجلس الأمن رقم 1973، وهجوم «الأطلسي» على ليبيا.
والأكيد أن المذكرات التي انتظرناها كثيراً، وتوقعنا منها كشف الكثير، على اعتبار أن مؤلفها، كما وصفه الكاتب والصحافي بشير زعبيه «شاهد ملك»، انعطفت قصداً إلى مناطق وجهات أخرى. وأسبغ المؤلف أوصافاً ومديحاً على رجل قاد ليبيا إلى مهاوٍ، وأذاق شعبها الأمرّين. مما دعاني إلى التساؤل: لماذا يا تُرى انقلب الأستاذ شلقم على رجل بتلك الأوصاف والمزايا؟ اللافت للاهتمام، أن المؤلف، في آخر الكتاب، يطرح السؤال نفسه، لكنه تعمّد عدم الإجابة عنه. وهو بذلك، وربما من دون أن يدري، تسبب في إجهاض الوليد. وهذا لا ينفي عن الكتاب أهميته، وما سجل ووثق من حقائق، وكونه أول مَن بادر بفتح الأبواب المغلقة.